الإعلام الأميركي.. جَلد الذات بعد الانتخابات

بتول خليل
الجمعة   2016/11/11
غلاف مجلة "نيوزويك" قبل يوم من الانتخابات.. وبعدها
أرخى فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية بظلاله على الإعلام الأميركي، واضعاً إياه أمام مراجعة ذاتية شاملة بالنسبة للخطاب المعتمد وللأسلوب الذي رافق تغطية الحملات الرئاسية ودعاياتها، وما رافقها من استطلاعات بعد أن بدا وكأن المعبد قد انهار فوق رؤوس الجميع، ما طرح أسئلة لا حصر لها أتت كلها نتيجةً لتظهير حقيقة الناخب الأميركي الذي أفضت نتيجة الانتخابات إلى إظهاره رأيه الصادم من خلال إيصاله ترامب إلى سدّة الرئاسة في البيت الأبيض.


وسائل الإعلام التي استفاقت على زلزالٍ ضرب الولايات المتحدة من أقصاها إلى أقصاها، وجدت نفسها فجأة في أميركا مغايرة عن تلك التي عبّرت عنها في سطورها ومنابرها، وأطاحت باللوحة التي شكلتها ورسمتها، والتي أتت متمثلة بسيناريو أوحد ليس هناك متسّع فيه سوى لصورة هيلاري كلينتون باعتبارها "الرئيسة المقبلة للولايات المتحدة".

صحيفة "واشنطن بوست" كانت من أوائل من استوعب حجم الكارثة، مفتتحة جَلدَ الجسد الإعلامي بوصف أداءه بـ "الفشل الملحمي". التعبير بدا ترجمة للأثر الارتدادي الأولى للهزة التي أصابت الصحيفة والإعلام الأميركي برمته، وذلك بعد فترة صمتٍ أخرست وسائل الإعلام للوهلة الأولى وأذهلت العالم أجمع. فالإعلام الأميركي الذي تخبّط في حيرته، طرح من خلال مراجعة أداءه مجموعة من المداخل والأولويات حاول فيها معرفة "العلّة الأساسية" التي أدّت إلى تراكم أخطاءه وانعدام بصيرته وصممه عن المؤشرات التي كان من المفترض أن تفسح مجالاً لإمكانية فوز دونالد ترامب في السباق الرئاسي.

مارغريت سوليفان، الصحافية في "واشنطن بوست" حاولت إلقاء اللوم على ترامب نفسه بتحميله مسؤولية انحياز الإعلام بغالبيته المطلقة للمرشحة الديموقراطية ومساندتها، باعتباره قد استعدى الإعلام واستفزّه حين عمم وصفه للصحافين بأنهم "جوقة من الفاسدين" ولا يعدون عن كونهم "حثالة". وكتبت في ما بدا وكأنه اعتراف يختزل لسان حال الصحافيين أجمع: "لقد جعلنا دونالد ترامب، بمعاداته لنا، ننفر منه لدرجة أننا لم نستطع أن نرى ما هو ليس أمام أعيننا. إذ إننا قمنا طوال فترة الحملات بتفحص المواقع والتقارير المفضلة إلينا، ونحنا نبتسم ونشعر بالاطمئنان حيال ما نراه ونقرأه ونسمعه، بالرغم من إدراكنا أن نتائج الاستطلاعات ليست أصواتاً انتخابية". كما "أننا لم نتوقع ،أو بالأحرى لم نفهم، أن الحشود التي رأيناها في المهرجانات الخطابية لمرشح الحزب الجمهوري، قد تترجم أصواتاً لصالح الرجل، الذي لم يكن أي منا يريد أن يصدّق احتمال أن يصل شخص عنصري وحقود ومتحرّش بالنساء ليتولى رئاسة أميركا".

سوليفان التي اعتبرت أن نتيجة الانتخابات أضعفت الصحافيين وعرّتهم وأوقعتهم من عليائهم كطيورٍ كُسرت جوانحها ونُتف ريشها، تابعت مقالها وكأنها تكتب بسكّين قائلة: "الصحافيون الأميركيون، وبعملهم من خلف مكاتبهم، فشلوا بأن يفهموا ما الذي صنع شعبية دونالد ترامب، تماماً كما فشلوا بطرح الأسئلة الصائبة والتدقيق بطبيعة الحملة الاستثنائية التي قادها ترامب، ما جعل الإعلام يتحوّل إلى منصة تكشف تحرشّه بالنساء، بينما يفشل بأخذ شعبيته المتزايدة على محمل الجد". وهي النظرية التي أكّدها كايل بوب، رئيس تحرير دورية "كولومبيا جورناليزم ريفيو" بكشفه عن أنّ "القليل جداً من المراسلين أمضوا وقتاً في العمل على تقارير تنقل آراء الناخبين من خارج المدن الكبرى"، واصفاً هذا التقصير بـ"الخطئية الكبرى"، ومعتبراً أن المراسل والإعلامي في هذه الانتخابات، أو في أي انتخابات أخرى، عليه أن يتوجّه إلى الناخبين، كونهم القصة الأهم، وقراءة نبضهم الذي يجب التركيز عليه أكثر من مديري الحملات أو مديري مراكز الأبحاث والاستطلاعات أو المعلقين والمحللين السياسيين". ويوضح بوب أنّ الذين انتخبوا ترامب هم بغالبيتهم من الفئات المنبوذة كلياً من المؤسسات الإعلامية التي تملك وجهة نظر مختلفة تمنعها من رؤية حقيقة ما يجري حولها.

المآخذ على أداء وسائل الإعلام تبدو في مكانها لناحية التغطية والمتابعة والرصد والأسلوب. لكن المشهد العام وبالرغم من تعقيداته وتداخلات الوقائع فيه لا يمكن وبأي حال إلقاء اللوم والمسؤولية كاملة عليه بنتيجة هزيمة كلينتون. إذ أن ما لا يجب إغفاله هو أن ترامب نجح من حيث فشلت كلينتون وليس من قوته التي لم تكن لتكفيه لو كان في مواجهته منافسٌ ديموقراطي أقل إشكالية، وذلك بعد تضافر مجموعة عوامل أطاحت بفوز المرشحة الديموقراطية. فكلينتون التي حملت أعباء سياسة باراك أوباما الخارجية في سوريا والعراق وليبيا وإيران، والداخلية على رأسها مشروع الرعاية الصحية "أوباما كير"، وما استتبعه من توصيف ترامب لها بأنها امتداد للإرث الفاشل الذي أوصل أميركا إلى الحضيض، إلى جانب عامل دخول بوتين واستخباراته على خط دعم ترامب بموازاة النيل منها، وجدت نفسها أيضاَ محاطة بفضائح قضية بريدها الالكتروني وتسريبات "ويكيليكس" التي تسارعت مع اقتراب موعد الانتخابات، إلى جانب تحقيقات "إف بي آي" التي أعيد فتحها  قبل أيام قليلة من يوم الانتخابات، والتي لا بدّ أنها ساعدت بالقضاء على كل فرصها بالفوز، وعلى التأكيد من أن الفارق الذي أظهرته استطلاعات الرأي لم يكن كبيراً، ما جعل من الصعب عليها  النجاح بالدفاع عن نفسها أمام مختلف الاتهامات التي طاولتها وتراكمت ضدها، والتي اعتمدت حيالها سياسة التبرير وتدوير الزوايا بدلاً من التوضيح الصريح والمباشر.

تبقى إحدى مكامن الخلل في مقاربة الإعلام بوقوفه إلى جانب كلينتون هو ما أظهرته النتائج بكونه عاجزاً عن التأثير في آراء الناس وتشكيل وجهات نظرهم، وهذا واحد من مكامن الفشل الحقيقي لدوره، خصوصاً إذا ما اعتبرنا أن أحد أوجه المعركة الانتخابية اتخذ طابع النزال بين خطاب ترامب وخطاب الإعلام الأميركي. فالقضايا التي أثارها ترامب والأسلوب الذي أدّاها فيه كان ذو وقعٍ أعلى وأعمق، وهو استطاع مخاطبة العقل الأميركي من خلال معرفة همومه ومخاوفه وهواجسه، بينما انتهج الإعلام في خطابه أسلوباً تحليلياً وسردياً قدّم فيه قصصاً واحتمالات لأحداث بطريقة مختلفة كلياً عن ترامب. ففي حين كان هو ينادي بالتغيير، كانت الصحف والقنوات تنادي باستمرار السائد وامتداده، ما جعل وسائل الإعلام محسوبة على النهج الرتيب والكلاسيكي التقليدي الذي بدا أن الناخب الأميركي ضاق ذرعاً به، ومال نحو ما رآه استثنائياً وتغييراً في خطاب ترامب.

ولعلّ ما قاله الملياردير الأميركي، بيتر ثيل، يعدّ مثالاً دقيقاً لناحية التضارب بين الخطابين. إذ يرى ثيل أنّ "الإعلام طالما كان يأخذ خطاب ترامب وتصريحاته بحرفيتها. فالصحافيون أرادو أن يعرفوا كيف سيقوم ترامب بترحيل المهاجرين غير الشرعيين، أو كيف سيقوم بالقضاء على تنظيم داعش. دائماً كانوا يبحثون عن التفاصيل. لكن في المقابل فإنّ الناخبين يرون الأمور بطريقة مختلفة تماماً. هم يأخذون خطاب ترامب على محمل الجد وليس بحرفيته. هم يدركون أن ترامب لن يقوم بنناء جدار على الحدود. ما يرونه في خطابه هو أنه سيكون لديهم سياسة هجرة أكثر تعقلاً". ما يعني أن ترامب، من وجهة نظر ثيل، استطاع التصويب على القضايا التي تقلق الأميركيين ونجح بمخاطبتهم من خلالها. لكن وعلى الرغم من أن العديد من الصحافيين عملوا على الإضاءة على تلك النقاط في خطاب ترامب، إلا أن غالبيتهم لم يأخذوها على محمل الجد.