عن ليلة ترامب.. وانتخابات "الأسد للأبد"

رهام الكوسى
الجمعة   2016/11/11
من التظاهرات في لوس انجليس احتجاجاً على فوز ترامب بالرئاسة (غيتي)
لم أعتقد بوجود أي التزام يمكن أن يجعلني أغادر سريري في الخامسة صباحاً سوى موعد طائرة أعلم أني سأتأخر عليها. فجر أمس، استطاعت هيلاري كلينتون ودونالد ترامب أن ينتزعا ما تبقى من نعاس في المترو إلى "تايمز سكوير" في الخامسة والنصف فجراً، لنكون في جامعة نيويورك، كلية الصحافة، ضمن فريق يضم ألف طالب وصحافي حول الولايات المتحدة لنراقب نزاهة الانتخابات.
صراحة، مع اقتراح البروفيسور أن نشارك في هذا المشروع قبل أسبوعين، ظننت أني سأعتذر في النهاية. ذلك أن التأكد من سلامة الديموقراطية الأميركية حتى أصغر تفاصيلها ليس على قائمة أولوياتي مع كل المقاطع والصور التي تصلني من حلب وغوطة دمشق والموصل. ظننت أنها هموم العالم الأول، وأني لم أعترف لذاتي بعد بانفصالي عن الانتماء للدول النامية ومآسيها، ومشاكلها "الحقيقية". 

لكن مع قراءتي رسالة الكترونية من مدير الفريق، منتصف الليل، تفيد بأني سأكون مسؤولة عن مراقبة الشكاوى في أربع ولايات، هي ميزوري، وألينوي، ونبراسكا ومينيسوتا، من السادسة صباحاً حتى الثانية ظهراً، منعني الذنب من الاعتذار.

في غرفة الأخبار تتالت الإعلانات عن فتح صناديق الاقتراع كل ساعة حتى التاسعة صباحاً أخيراً في كاليفورنيا. كان عليّ متابعة كل الشكاوى التي تصل على الخط الساخن من مقترعي في تلك الولايات يعبرون فيها عن مخاوفهم، امتعاضهم أو تساؤلاتهم بخصوص مراكز الاقتراع، أجهزة التصويت وحتى جدوى المشاركة في الانتخابات. 

أكثر ما ورد في القائمة الطويلة للولايات الأربع كانت بلاغات عن أعطال في آلات التصويت مع اعتماد الاقتراع الإلكتروني، خطوط الانتظار الطويلة، نفاد أوراق التصويت أو حتى الأقلام. في ميزوري اشتكى البعض من حالات تخويف وتهديد لصالح أحد الأحزاب. الخطوة اللاحقة كانت إخطار المراسلين في وسائل الإعلام المحلية الأقرب في تلك الولايات للتحقق شخصياً من صحة هذه الأنباء. 

في النهار التالي مع النتيجة التاريخية، كل الوجوه في الكلية حزينة، بعضها باكٍ. جمعنا عميد الكلية ليتحدث عن النتائج، عن واجبنا كصحافيين أن نتولى مسؤولية التأكد من أن الرئيس المقبل سيلبي الوعود التي قدمها لكل الاميركيين، وأنه لن يتعدى على حقوق المساواة والمرأة والأقليات، وحرية الصحافة. 

في الصالة المختنقة بالوجوه المنقبضة، تحدث شاب باكستاني من أصول بريطانية عن إحباطه مع فوز ترامب بعد نجاح انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي. تقهقر صوته مع دموع لم توافق جثته الضخمة. وجه آخر لفتاة شقراء بشعر قصير امتلأ ببكاء صامت. الجميع يتبادل عناقات مجانية.

هنا، في جامعة كولومبيا حيث جائرة بوليتز تمنح كل عام، يحمل الجميع وسائل الإعلام مسؤولية هذا الفشل. أمضينا محاضرة الكتابة الروائية للأخبار نتحرى كل الأخطاء التي وقع فيها الصحافيون منذ البداية في تعاطيهم مع ترامب، في استخفافهم بمناصريه، واستعلائهم لكل الأميركيين المبعدين في البلدات والقرى الصغيرة. 

الصحف تهتم بما يحدث في واشنطن، ونيويورك وكاليفورنيا حيث تعيش النخبة. النخبة بالطبع اختارت كلينتون. النخبة بطبيعتها لا تمثل الجميع. 

على واتساب في الثانية صباحاً إثر النتائج الصادمة، تناقشت مع زملاء صفي حول لياقة الاتصال بالبروفيسور المسؤول عن مجموعتنا في تلك الساعة للاطمئنان على صحته. كان قد أخبرنا أنه لم يستطع النوم منذ فترة، وأن فوز ترامب في الانتخابات حلم سيء يزوره في بعض الليالي. عصر نهار اليوم التالي، أرسل بريداً دعانا في لأن نقرأ بعض المقالات التي سبقت نهار الانتخابات. سنتغاضى عن كتاب مانكور أولسون، "منطق الفعل الجماعي" المطلوب لمحاضرة الخميس. رغم أن ما حدث هو فعل جماعي، منطقي في النهاية. 

في السادسة يتوجه من لم يهزمه النوم إثر الليلة الطويلة إلى تايمز سكوير حيث تسير مظاهرة ضد فوز ترامب. يجتمع الآلاف في الساحة في مانهاتن. يوازي زميلي الهندي ما يحصل هنا بالربيع العربي. لم أفهم بالضبط إن كان يعني مظاهرات هذا المساء أم نتيجة الانتخابات. في النهاية الشعب أراد ترامب رئيساً، والنتيجة الكارثية كما يصفها ملايين، هي ثمرة ديموقراطية حقيقية. 

خلال النهارين الماضيين، رغم محاولتي إغلاق كل ما يتعلق بالماضي في سوريا في دماغي، ينكزني النهار الصيفي قبل عامين في دمشق. حزيران2014، كانت سوريا تحتفل للمرة الأولى بانتخابات رئاسية ضمت أكثر من مرشح واحد تلاحق صوره سكان المدينة، مع كلمة "نعم" ضخمة إلى جانب وجهه القديم. 

في كلية الطب على أوتستراد المزة، لم يسمح للطلاب مغادرة الحرم الجامعي من دون خنصر أو سبابة زرقاء تثبت أنك كمواطن مثالي، شاركتَ في اختيار رئيس البلاد. أذكر تماماً زيارة مديرة الوحدة لغرفتنا في الطابق الأول بالمدينة الجامعية لتتأكد من أن الجميع يمتلكون أصابع ملونة.

اضطرت شريكاتي في السكن أن يذهبن لمركز الاقتراع. من داريا وحرستا ودرعا، ارتعدت وجوههن من فكرة مقاطعة الانتخابات. 

في دمشق قبل عامين، فاز الرئيس بغالبية تجاوزت الـ80 في المئة. أصوات الرصاص من الحواجز اللانهائية على امتداد أوتستراد المزة، والزغاريد من الوحدات المجاورة امتدت حتى الصباح. في تلك الليلة سمحوا للصبايا في السكن الجامعي أن يتأخرن بعد العاشرة. بكت وجوه في الغرف المغلقة. هناك، لا صحافيين ليكتبوا عن الانتهاكات المضحكة. لا خط ساخناً للإبلاغ عن أجهزة توقفت عن العمل، أو أن المسؤول عن الصندوق طلب أكثر من الهوية الشخصية. لا غرف إخبارية تنتظر النتيجة غير المتوقعة فعلاً. لا مناظرات رئاسية بين المرشحين. 

منذ عامين، ظننت أني سأبقى في دمشق إلى الأبد، وأن الأسد سيبقى إلى الأبد.