شرطة "الإتيكيت" في "أم تي في"

روجيه عوطة
الخميس   2015/09/03
فحوى القول:على كل متظاهر أن يكون "آدمياً"
كل تلفزيون من التلفزيونات اللبنانية يريد من الناس أن تتظاهر على أساس خطابه التوصيفي عنهم، وإخراجه التصويري لهم. في هذا المطاف، قررت قناة "أم تي في" تعليم المحتجّين "إتيكيت" خاصاً بحراكهم. وقد أخذت نادين ضاهر هذه المهمة على عاتقها في فقرتها الصباحية ضمن برنامج المحطة الصباحي، مقدمةً نصائحها إلى "مَن يرغب" في الخروج إلى الشارع.



للوهلة الأولى، ولشدة هزل كلامها، يظن المُشاهد أن الإعلامية تمزح. لكنه، سرعان ما ينتبه إلى أن إرشادها ودعواتها المسلكية جديّة، مثلما أنها تستند على المنظور "الحضاري" ومعاييره "الحديثة"، التي تتعامل المحطة على أساسها مع البلاد وجمهورها فيه.

فقناة "أم تي في"، وعلى لسان ضاهر وغيرها، تصنع "مواطنين" يعتمدون "إتيكيت" بعينه حتى لما يسعون إلى الإنتفاض على "آداب السلوك" والخضوع والتجمد في مستنقع "السلم الأهلي" و"عيشه المشترك".

طبعاً، ضاهر، وبسبب أدائها "المودرن"، تتبع منهجاً "عقلانياً" في شرح فكرتها وتفسير نُصْحها. تنطلق من مفهوم "المواطنة" وتُمحوِره حول "الواجبات"، ومنه، تتجه صوب تحديد مفهوم "الإتيكيت"، باعتباره فرضاً خيارياً، قبل أن تنتقل إلى قوانينه في التظاهر.

وفي سبيلها إلى ذلك، تحشد عدداً من الأمثلة السقيمة، كمنع العلكة في سنغافورة، وركْن السيارة في مكان عام. وكلما ضربت عبرة، ردّدت أنها تبغي "إعادة الموضوع إلى جذوره"، بلا أن تدرك أن تعريفها "الجذري" ركيك للغاية، ولا حاجة له في سياق قولها، الذي تمده نحو التظاهر بوصفه "حقّاً" يكفله الدستور وتحميه القوى الأمنية بعد الإستئذان منها.

فـ"إتيكيت" ضاهر، وقبلها محطتها، هو شكل من أشكال اللياقة الرسمية، أي ما ترضاه الدولة وسلطاتها في مجتمعها، وتشجّع على ممارسته كي تُبقي على مظهرها "النظيف"، ولا يشوبه أي مكبوت سلوكي من السلوكيات التي تكبتها وتقصيها بعيداً منها أو إلى تحتها.

والحال هذه، تتوجه "أم تي في"، في فقرتها التأديبية، إلى جمهورٍ عيشه رغيد، واهتمامه بهيئته المسلكية على اتصال بمشهديته المتمدنة على الطريقة اللبنانية المتعولمة. كما أنها، في صناعتها له، تريده على صورة في شاشتها عن لبنان الجميل، والصافي من "الانتهاك" و"الشغب" و"التخريب".

فمهما كان الوضع في البلاد، وحتى لو فاض نهر بيروت بالنفايات، وأقفلت الطرقات بالقمامة، وعُطلت الجسور بالمكبات الممتلئة، لا يجب على "المواطن"، المصنوع في صباح المحطة، أن يتخلى عن "أخلاقه المهذبة". وإذا أراد أن يعبّر عن اعتراضه، عليه الإلتزام بواجباته، لا أن يتعداها كي يأخذ حقه الأولي: بيئة غير مدمرة بالطمر وملوثة بالحرق. لا،  فهو "لبناني حضاري"، وبالتالي، مضطر، بحسب هويته هذه، ألا يتجاوز "إتيكيتها" في التظاهر الدمث، والتنشق المؤدّب لغاز البوليس، واحترام المسؤولين السياسيين من دون استخدام الشتائم "الشخصية"...

على كل متظاهر أن يكون "آدمياً"، تماماً مثل السلطات التي كانت ولا تزال خلوقة في تحقيق أي مطلب من مطالبه، لدرجة أن صحافتها وصفته بـ"الكلب" و"المندس" و"العميل" و"الغوغائي"!

روجت فقرة نادين ضاهر لآداب الدولة ومجتمعها، خصوصاً أنها تأتي على ذكر قواعد ومعايير، هي ملائمة للذهاب إلى سهرة في صالون منزلي، وليس للخروج إلى الشارع، الذي لا يمكن ضبطه بمسلك واحد ووصف واحد وصورة واحدة. فالخروج إلى الشارع يعني، وعلى عكس ما قالته الإعلامية في درسها التأديبي، مغادرة البيت وليس الحفاظ عليه في خارجه. بحيث أن أي مسلك مكبوت بفعل علاقات القوة داخله يُمارَس في الخارج، في ما يسمى "المكان العام"، الذي لا يمكن الجزم بعموميته في لبنان.

وقد يكون المسلك المكبوت هو النظافة أو القذارة أو تسريح الشعر أو "نكشه"، وقد يكون الملبس المرتب أو المبعثر، وقد يكون منزعاً سلمياً أو ميلاً عنفياً... وهذا كله لا يحدده قول "فوليتيري" رث، ولا تعينه عادة من عادات التفكير البالي، أي استبدال البحث في الموقف بإقتباس عبارة شهيرة بغاية إدلاء الرأي فيه.

لكن، لا بأس، ورغم ذلك، فمن الآن فصاعداً، على المتظاهرين أن يلتزموا بالقواعد المذكورة في "كاتالوغ" فقرة "إتيكيت" عند خروجهم إلى الشارع من أجل الإحتجاج. وأبرزها: الإستئذان من أي سلطة حولهم، مؤسساتية ومجتمعية، الإستحمام القسريّ، التقيّد بالتربية المدنية وأخلاقها، ارتداء الملابس المتناسقة، والتمتع بالجمال والحُسن، استعمال يافطات وشعارات مهذبة، تدل على أنهم "أولاد بيوت"، الاعتقاد أن ممارساتهم الشارعية لا تنم عن استلابهم في المُعاش، فـ"البلد لإلنا والأماكن لإلنا" قبل الإعتراض وبعده، قراءة كتاب من كتب فولتير، والتصفيق لشرطة مكافحة الشغب عند هجومها عليهم.

وما على المتظاهرين القيام بكل هذه الأفعال سوى حين يتأكدون من أنها ناتجة عن شعور بالخجل أو أنها تنتج شعوراً بالذنب فيهم. وحين يتأكدون من ذلك، عليهم العودة إلى البيوت، التي لم يبارحوها، أو بالأحرى، عليهم أن يمكثوا فيها.

"إتيكيت" نادين ضاهر، اختصاره: إما أخرج من البيت إلى البيت نفسه، أو إبقَ فيه، وفي الحالتين، لا تتظاهر سوى بإحساسك بصورتك المؤدبة، وبالتالي، الراكدة أينما حضرت في البلاد.