سيرةُ "شطّور" السوريّ

تمام هنيدي
السبت   2015/05/09

"رصاصٌ طائشٌ".
كانت العبارةُ إجابةً على سؤالي: كيفَ مات؟!
أفكّرُ الآن، طائشٌ لدرجةِ أن يقتل؟ أن يرتكبَ جريمةَ قتل؟!
أنا أيضاً كنتُ ولداً طائشاً، سرقتُ تبغَ أخي، ونقوداً معدنية من جيبِ والدي، وهربتُ من المدرسةِ تسلقاً وقفزاً عن جدرانها المرتفعةِ كأنما أفعلُ ذلكَ من سجن، استبدلتُ العلامةَ السيئةَ على ورقةِ النتائج المدرسية بأخرى معقولة، خفتُ الأولادَ الأشقياءَ فاشتريتهم، وعلى أرضِ باحةِ المدرسةِ رسمتُ منجلاً ومطرقةً بالطبشورِ الأحمرِ وعاندتُ الموجّه "المخبر" حينَ طلب أن أمسحه: "لم أرسمهُ لأمسحه".

أحببتُ فتاةً في الصفّ الثامنِ ومشيتُ وراءها من المدرسةِ حتّى منزلها ثلاثة كيلومتراتٍ كلّ يوم، وأحببتُ فتاةً في الصفّ العاشرِ وكانت نتيجةُ الحبّ فاتورة هاتفٍ بلغت ثمانية آلاف ليرة دفعها أبي من راتبه الذي يساوي عشرةَ آلافٍ حينذاك!

كنتُ ولداً طائشاً فعلاً... لكنّي لم أقتل!
القتلُ يتعدّى الطيش... الرصاصُ لم يفعل ما فعلتُهُ، لأنهُ لم يكن طائشاً مثلي، كانَ مجرماً وحسب!

***

كتبَ عماد الأحمد، الشاعر والمترجم السوريّ، حينَ كانَ في مصر، ديواناً شعرياً كانَ عبارةً عن خمسةٍ وعشرينَ مقطعاً صغيراً في رثاءِ أقاربهِ الذينَ ازداد عددهم بعد صدورِ الكتابِ فصاروا سبعة وعشرين.

عدنان أو "شطّور" كما يلقّبونهُ في العائلة، وهو ابنُ خالةِ عماد، كان واحداً من ضحيتين لقيتا مصرعهما بعدَ صدورِ الديوان/ المرثية.

"شطّور"، الشابُ المسكين النحيلُ الأسمر، على ما يصفهُ عماد، لم يحمل سلاحاً منذُ بدايةِ الثورة، ويكادُ يكونُ الوحيدَ الذي فعل ذلك من بين إخوته. غادر القصير قبل مدة واتّجه إلى الرقة ليعمل في محطة وقود، لكنّ قدرهُ أن خصّت طائراتُ التحالف الدوليّ ضدّ داعش المحطّة التي يعملُ فيها "بقذيفة طائشة" فقُتل!

تذكّرتُ "شطّور" الذي لا أعرفهُ، حينَ تلقّيتُ خبرَ وفاةِ قريبي في السويداء برصاصٍ "طائشٍ طبعاً"، إثرَ مشكلةٍ حصلت في بلدةِ المزرعة بينَ اثنين من أعضاء اللجان الشعبية "جيش الدفاع الوطني".

إذ، مثلما للأبطالِ سِيَر وصفات مشتركة، تظلّ على ألسنةِ الناس والتاريخ، فإنّ للضحايا عاثري الحظّ صفات تجمعهم أينما كانوا، إحدى أهمّها أنهم ليسوا أبطالاً. وقد يكونُ هذا سبباً كافياً لتناسيهم بالتقادم. أولئكَ الذينَ سيكتفي العامّةُ حينَ يروا أولادهم بعد حين بأن يقولوا: هذا ابنُ فلان.. أبوه "قِتِلْ" أيام الثورة!

وخلدون السويداء، مثلُ "شطّور" حمص، ليس بطلاً. نحيلٌ أسمر من شدّة الشمس يعملُ موظفاً بسيطاً في مؤسسةٍ من مؤسسات الدولة (التي لا أعلمُ إن كان من الواجب الحفاظُ عليها في سياقِ سرديّات الحفاظ على المؤسسات). عمّرَ بيتَهُ بيديه حينَ قرر الزواج، طيّنهُ وطلاهُ وبلّطه، فعلَ كلّ هذا لأنهُ قررَ الزواج! على هذا فإنهُ ليسَ من المُستغربِ في السياقِ أن يتأخرَ ثماني سنواتٍ ليُرزقَ بمولوده الأول. هذه الأسباب جعلت منهُ رجلاً مسالماً، متمسّكاً بحياتِهِ من دونِ أن يكونَ هذا التمسّكُ جبناً، إذ أنّ خلدون الذي لم يخرج في مظاهرةٍ، دفعَ زوجتهُ جانباً حينَ سمعَ صوتَ رصاصٍ في الأرجاء المحيطة بمنزلهِ وهرعَ خارجاً ليعودَ بعدَ دقيقتين مشياً على الأقدام ماسكاً جرحهُ النازف بيديه ويطلب من زوجته الاتصال بالإسعاف.

سياقٌ يبدو لوهلةٍ مأخوذ من سيرة روائية أو قصصية، لكنّ الواضح أنّ ما يجري في سوريا تخطّى مسألة مقارنتهِ بالروايات والقصص لتَأخذنا المعادلةُ نحو تشبيه شخوصِ الحكايا وأحداثها بما يجري في سوريا.

يرثي عماد الأحمد ابنَ خالتهِ:
"مسبحةُ عدنان، شعرُهُ، قميصُهُ الخمريّ، بطاقتهُ الشخصية، رخصةُ القيادة، دفترُ العائلة، إخراج قيدٍ مصدق، صورةُ ابنتِه فاطمة، عنوانُ أُمّهِ في آخر تحديث لإحداثيات النزوح، ورقةٌ مجعلكةٌ عليها حسابٌ رياضيّ مُعقّد ليكملَ حتى نهاية الشهر، علاقةُ مفاتيحٍ عليها آيةٌ قرآنية، ولّاعةٌ صينيّةٌ رخيصة، قميصٌ داخليّ أبيض من القطنِ السوري، مشطٌ بلاستيكيّ يُستخدمُ عندَ الحاجةِ، حزامٌ جلديٌّ مثقوبٌ عنوةً بالسّكين الحامية ليلُفَّ خصَرَهُ النّحيلَ، جوارب سميكة مُكدّسة فوقَ قدميهِ الصغيرتين، حذاءٌ رخيصٌ قابل للطيّ ليستخدم ك "شحّاط" عند اللزوم، خاتمُ زواجٍ فضيٌّ سَوّدَهُ العمل في محطة البنزين، كوفيةٌ بيضاء وسوداء كـ "ياسر عرفات" لا تستطيعُ منحَ وجههُ الـ "بايبي فايس" مزيداً من السن، محرمةُ أمّه البيضاء، مشربٌ للسجائر الملفوفة أهداهُ إياهُ والدُهُ، حجابٌ أسود غامضٌ لبسَهُ لسببٍ لا يَعرفُهُ! 700 ليرة سورية كان لها صوتٌ في يومٍ ما، تُعادلُ اليومَ ثلاثةَ دولاراتٍ أميركية ونصف، عقدُ مُلكيةِ البيتِ والأرض...
كُلُّها احترقَتْ معهُ عندما... انقصف!"

***

يمكنُني الجزمُ بأنّ أكثرية الأشياء التي احترقت مع "شطّور" كانت بحوزةِ خلدون، تلكَ مفرداتُ حياة ضحايا الموت الطائش!

أولئكَ الذينَ لتكتملَ فصولُ سيرهم، عليهم مثلما عاشوا حياةً على هامشِ الصورةِ، أن يموتوا بالطريقة نفسها، برصاصٍ أو قذائف طائشة!