"علي بابا" الصيني يلعب بين اسكتلندا و"آفاتار"

أحمد مغربي
الأحد   2014/09/28
شعار "علي بابا الصيني": ننمو لأننا مرنون.. كما في أي زواج

فيما كانت الإمبراطورية البريطانية السابقة تنتظر بقلق مصير وحدة جزرها المتناثرة بين بحر المانش والمحيط الأطلسي، فازت الصين (التي يراها البعض في مسار يذكّر بإمبراطوريات الأباطرة الآفلة) في "استفتاء" حاسم في بورصة الإمبراطورية الأميركيّة (وهو وصف شائع للوضع المتألّق للولايات المتحدّة حاضراً).

لم يكن ذلك الاستفتاء سوى الطرح الأول العام Initial Public Offering (اختصاراً "آي بي أو" IPO) لأسهم موقع "علي بابا" Alibaba الصينيّة: الموقع الأول للتجارة الإلكترونيّة. في الأسهم، كما في الانتخابات، تحسم الميول في المصائر. وسجّل "علي بابا" نصراً كاسحاً بأن جمعت أسهمه في الـ"آي بي أو" المخصّص له في بورصة نيويورك، قرابة 25 مليار دولار، ما رفع قيمة ذلك الموقع للتجارة الالكترونية إلى 228 مليار دولار.

لعبة "الواقع الفائق
"
كان الـ"آي بي أو" لموقع "علي بابا" أحد أضخم الطروحات في سجل البورصات كلها، بل إنه كان الثاني حجماً في ذلك التاريخ. وبذلك، تفوّق "علي بابا" الصيني على شركات أميركيّة أعطت الولايات المتحدة أبهى صور قوتها الناعمة في عصر المعلوماتيّة والاتصالات، مثل "فايسبوك" (شبكات التواصل الاجتماعي) و"أمازون" (التجارة الإلكترونيّة) و"آي بي أم" (صناعة الكومبيوتر ومكوّناته وأنواعه) و"إنتل" (صناعة الرقاقات الإلكترونيّة).

وتكتمل المفارقة في ملاحظة أنه لم يعد من شركات أميركيّة (وعالميّة أيضاً) تتفوق على "علي بابا"، سوى "آبل" و"غوغل" و"مايكروسوفت". يلاحظ أيضاً أن الشركات الثلاث الأخيرة تعمل في مجال المعلوماتية والاتصالات، ما يعني أن الاقتصاد التقليدي لم يعد فيه شركة، من عمالقة الاقتصاد الجديد، قادرة على منافسة الصين في اقتصاد الفضاء الإفتراضي للإنترنت. ولعله ليس عبثاً أيضاً أن "علي بابا" لم يقبل أن يسجّل أسهمه في بورصة "نازداك" التي تعتبر بورصة المعلوماتية والاتصالات، وكذلك تعتبر بورصة الاقتصاد الرقمي الافتراضي. وأصرّ القيمون على الموقع، الذي يعمل كليّاً في التجارة الإلكترونيّة في الفضاء الافتراضي للانترنت، أن تسجّل أسهمه في بورصة السوق "الفعليّة"، ما يؤكّد واقعة باتت شبه بديهيّة وهي التقلّص المستمر للفوارق بين الافتراضي والفعلي في الأزمنة الحاضرة، والتي باتت توصف بأنها أزمنة "الواقع الفائق" ("هايبر رياليتي" Hyper Reality)، حيث يندمج الافتراضي بالفعلي ويتشبكان تماماً.

ما بعد حداثة "آفاتار" واسكتلندا
الأرجح أن صورة المفارقة التي صنعها موقع التجارة الافتراضية الصيني، هي أكثر تشابكاً مما ترسمه الأبعاد السابقة. هناك وجه آخر للمعطيات المتشابكة التي ارتسمت حول النجاح التاريخي لـ"علي بابا" الصيني، المدعوم من الحزب الشيوعي "الماوي"، في قلب العاصمة الفعلية للعولمة المعاصرة: بورصة نيويورك. 

يظهر ذلك الوجه في أن "علي بابا" أحرز تفوّقه المعولم بالاستناد إلى معطى محليّ تماماً، بمعنى سيطرته التامة على التجارة الإلكترونيّة في... الصين. يبدو الأمر كأنه كليشيهه ينتمي إلى عصر الثورة الصناعيّة الأولى السوق الوطني الصيني. في عصر العولمة الحاضرة، لم يعد السوق مرسوماً بالجغرافيا وحدها، بل أن الجغرافيا السياسية لم تعد حدوداً للأسواق منذ عقود طويلة، أي منذ بداية الشركات العملاقة العابرة للقارات في سبعينات القرن الماضي.

لا نجاة للصين!
في العودة إلى النجاح المدوي لـ"آي بي" موقع التجارة الإلكترونيّة الصيني "علي بابا"، من المستطاع أيضاً تذكّر أنه يأتي من بلد ما فتئ "يعاند" ذائقة الحداثة بقوة. مثال بسيط: أظهرت سلطة بكين حساسيّة فائقة على فيلم "آفاتار" الشهير الذي اعتبر من التعبيرات الثقافيّة التي تؤكّد على خصوصيّة الهويات والثقافات وحقوقها، وصولاً إلى مناهضة ما يتجاوزها عبر دعاوى واسعة حتى عندما يكون رأسمالية كبرى، لا تعرف حدوداً لامبراطورية قواها في الاستثمار والسيطرة على الموارد والأسواق.

الأرجح أن السياق عينه أظهر أحد أقوى تعبيراته حاضرا،ً في الاستفتاء على استقلال اسكتلندا عن الامبراطورية البريطانية، والذي تزامن مع الطرح الأولي لأسهم "علي بابا" الصيني في بورصة نيويورك! في معنى ما، تكون تلك المصادفة في الزمن مفعمة بالدلالة أيضاً. ومع الـ"نعم" الاسكتلندية المترافقة مع تثبيب أفق الهوية المتميّزة ونيلها وعوداً سياسيّة صريحة بزيادة التعبير عنها عبر سلطات محليّة واسعة للجغرافيا الاسكتلندية، ظهر غير صوت في القارة الأوروبيّة ليتحدّث عن موجة من الهويات الخصوصيّة وجدت في الاستفتاء الاسكتلندي سنداً لنهوضها، في وجه مؤسّسة "الدولة الوطنيّة" في أوروبا، على غرار كاتالونيا في إسبانيا. لا يغيب عن البال أن الهويات الصغيرة في أوروبا لا تتجه بالضرورة إلى الانفصال عن المنظومة الجغرافيّة - السياسيّة الكبيرة التي يمثّلها "الاتحاد الأوروبي"، على غرار بقاء تشيكيا وسلوفينيا في ذلك الاتحاد، بعد تفكك دولة تشيكوسلوفاكيا.

إستطراداً، يصعب اعتبار الصين ناجية من تلك التشابكات عينها. لم يكن قلق السلطات الصينية من فيلم "آفاتار" سوى تعبير آخر عن خشيتها المستمرة من الهويات الثقافيّة المتعددة، خصوصاً هوية الإيغور المرتبطة ببُعد ديني إسلامي. ورغم مرور سنوات كثيرة، ما زالت هونغ كونغ تقاوم اندماجها في المنظومة الجغرافية - السياسيّة الواسعة للصين الشعبيّة. تغذي الصين نزاعات ترتكز على الهوية في نيبال والهند، لكنها ليست في منأى عن تلك الصراعات عينها، وهذه مفارقة قويّة. ربما يمثّل موقع "علي بابا" مفارقة مماثلة، في ذلك السياق، بمعنى أنه ينجح في رسم خصوصية الهوية المحليّة في سياق العولمة، لكنه يذكّر أيضاً بأن البلد الذي يدعمه (مواربة، على طريقة صينية باتت مشهورة)، يعاني إشكالاتٍ ربما تكون الهوية المحليّة (الإيغور المسلمون) أحد أقسى مساراتها. وللنقاش بقيّة..