سمكة وكريستال.. ولغة مقدسة

أحمد شافعي
الثلاثاء   2014/10/21

عندما قال محمد ثروت إن كل بلاد الدنيا جميلة، كان يبتسم في وجه الجميع. كان يتودد إلى الستة مليارات كلهم. كأنه صاحب بيت يقول لضيوفه أن لا داعي للتحفظ، فليأكلوا ويشربوا ما طاب لهم. ثم استدرك متسائلا: "لكن أجمل من بلدي؟"، وأجاب: "لا". والإستدراك الإستفهامي، مع إجابته، لا ينفصلان. تجمع بينهما قوة الوزن، وطغيان العروض، خصوصاً لو نُطقت الكلمات كما ينبغي لها، بالعامية المصرية: كل بلاد الدنيا جميلة .. لكن أجمل من بلدي؟ لا. فهل كان ثروت شوفينياً؟ نعم. هذا ما يظهر للوهلة الأولى على الأقل، إذ يبدو وكأنه يقول أن لا بلد أجمل من بلده. لكن، هل يعني هذا أن بلد محمد ثروت هو الأجمل بين كل البلاد؟ ليس بالضرورة. فليس ثمة بلد أجمل من بلدي، لأن كل بلاد الدنيا جميلة، لأنها كلها سواء في الجمال. إذن، ينجو محمد ثروت بقوة التأويل، بعدما أوشك أن يهلك بقوة العروض.

والآن. كل لغات الدنيا جميلة؟ طبعا. لكن هل هي أجمل من لغة ساباتا ماهو موكاي؟
ساباتا، الشاعر والكاتب من جنوب إفريقيا. هو اختصاراً، ساباتا. لا أحد من الكتّاب المشاركين في "برنامج آيوا الدولي" للكتابة يناديه إلا بـ"ساباتا"، ودمتم. اجتمعت وإياه وكاتبتين، خلال لقاء مع جمع من الطلاب في مدرسة للموهوبين، بمدينة نيو أورلينز. جلس الطلاب في شبه دائرة من الكراسي، ومنهم مَن جلس على السجاجيد المفروشة بين المقاعد، ومن أولئك الجالسين على الأرض مَن رفع يده طالبا السؤال، موجها إياه للجميع.

ـ هل الإنكليزية تبدو لكم لغة محدودة؟ قاصرة عن التعبير؟

أفهم الآن أن المراهق اللئيم كان قد لمس في إنكليزياتنا عوارها، وقلة حيلتها، وهوانها على الناس. لكننا ساعتها فهمنا السؤال على نحو آخر. وانبرى ساباتا يجيب.

قبل ذلك اختلفت مع ساباتا كثيراً. اختلفت معه فقط. لا أعتقد أننا اتفقنا على شيء. لكن أشد ما اختلفت فيه مع ساباتا هو هذا. قال إنه في ظل محاولات النظام الجديد لعلاج ما أفسده نظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا، أن أصبحت أولوية التوظيف للمرأة السوداء، يليها الرجل الأسود، فالمرأة البيضاء، فالرجل الأبيض. قلت له: لكن هذا نظام عنصري. وساعتان يا عباد الله.. هو يحاول إقناعي بأن الفردوس المفقود تم العثور عليه، واسمه حالياً جنوب أفريقيا، وأنا أحاول أن أقنعه أن القضاء على نظام عنصري لا يكون باتباع سياساته العنصرية نفسها مع تغيير المستفيدين منها.

قال لي: هل تتصور ألا يكون في جامعة، فيها مئتي أستاذ، إلا أستاذ أسود واحد؟ قلت له: ومن يحتاج أستاذاً أسود أو أبيض؟ المهم أن يكون أستاذاً مؤهلا للتدريس. وهكذا، أنا وساباتا، بيننا، جغرافياً وذهنياً، قارة كاملة، كلٌّ منا يعيش في أحد طرفيها الأقصيين.

قال ساباتا: كتبتُ للصحافة دائماً بالإنكليزية، ودائماً ما شعرت أنها لغة محدودة، لا تستوعب مشاعري كلها، عاجزة عن نقل أفكاري كاملة، وحينما كتبت روايتي بلغتي المحلية، تبيّن لي كم هي لغة غنية، شديدة الثراء... تلك كانت إجابة ساباتا على سؤال المراهق اللئيم. واضطررت أن أتكلم. قلت: لا أحب أن أضيِّع فرصة للاختلاف مع ساباتا... لنفترض يا شباب أني سمكة، كائن بحري ما، يعيش على عمق غائر تحت الماء، حيث لا نهار ولا ليل، لا شمس ولا قمر. من المؤكد أن لغتي لن تحتوي كلمتين تعنيان الليل والنهار، ومن المؤكد أن هذا يجعل لغتي تبدو أعجز من لغات أخرى على سطح الأرض، فيها كلمات لليل والنهار والشمس والقمر. لكن، ما حاجتي أصلاً إلى كلمتي الليل والنهار إذا لم يكن لدي ليل ونهار؟ قلت إن كل لغات الدنيا جميلة، مثلها مثل لغة ساباتا. قلت: لا تدعوا أحداً يخدعكم بأن هناك لغات أرقى من لغات، لأن الناس بمختلف الألسن يعيشون، فيأكلون ويشربون ويتشاجرون ويتحابّون ويحلمون ولا ينقصهم شيء.

وتذكرتُ مقالاً كنت ترجمته قبل سنين طويلة، وكان عرضاً نقدياً موجزاً لكتاب بالإنجليزية عنوانه "لغة مقدسة وبشر عاديون". كانت اللغة المقصودة هي العربية، والبشر المعنيّون نحن. نحن الذين لدينا شِعر عربي منسوب إلى أبينا آدم، فالعربية في تصورنا لغته. نحن الذين نؤمن أن لغتنا هي لغة العالم الآخر، لغة الجنة (والنار؟ ماذا عن النار؟ هل سيصرخ هتلر هناك قائلاً: أواه؟ عموما، سأكون هناك وسأعرف).. بل لغة الله. هي لغة ما قبل الوجود وما بعد الوجود. وليس لدي ما ينفي صحة هذا. فقد يكون صحيحاً طبعاً. لكن، هل يعني هذا أي شيء؟ هل تغير قداسة اللغة ـ إن صحت ـ أي شيء في عادية الناطقين بها؟ الحقيقة أن الإجابة هي نعم.

فلو أن لغتنا العربية مقدسة، فنحن - أبشركم يا إخوتي - لا نكذب بلغة عادية، لا نتشاتم بلغة أرضية، لا ننافق حكامنا بلغة غير لغة الله. الحقيقة أننا لو كنا فعلاً مؤمنين وواعين بأن اللغة الموهوبة لنا لغة إلهية، مقدسة، فنحن على قدر من الفجور يفوق كثيرا فجور غيرنا من البشر. لكننا في الحقيقة لا نؤمن بذلك. مثلما لا أمتلك أنا كوباً من الكريستال. طبعا لو جاء أحد منكم إلى بيتي لرأى بوضوح في غرفة الطعام خزانة أنيقة فيها أكواب أنيقة من الكريستال. لكنها ليست هناك لأنني أمتلكها، بل لأنه هو يمتلكها. هو الذي سيشرب فيها دوني. هو الذي يمكن أن تقع من يده على الأرض فتنكسر فتقول زوجتي "حصل خير"، وتشرع معي في جمع الفتات وغضبها لا يستشعر لظاه غيري.

الأكواب الكريستالية عندي، أمانة في عنقي، لكنها ليست لي فأقول إنها ملكي. ومثل ذلك بالضبط قداسة اللغة. لا أحد منا يؤمن بأنها مقدسة.

لكن، تأتي لحظة، كأن يسألنا مراهق أميركي عن طبقات اللغات، فإذا بالواحد منا يتذكر قداسة اللغة المركونة في خزانة الكريستال، وإذا به يسأل في استنكار: هل تعتقد أن الله كان ليقول لنبيه: "وإذا سألك عبادي عني فـ..I am around"؟ شتان يا صاح ما بين لغة الأرض ولغة السماء.