الصين والقنبلة الديموغرافيّة: هل ترث الهند موقعها؟

علي نور الدين
الجمعة   2023/03/31
كبرى الشركات العالميّة بدأت تدريجيًّا بنقل عمليّاتها من الصين إلى الهند (Getty)

إذا كان هناك مورد أساسي استند عليه النموذج الصيني للنمو، فهو وفرة اليد العاملة المنخفضة الأجر واتساع قاعدتها، وبناء قدرة تنافسيّة للإنتاج المحلّي على هذا الأساس. ومنذ منتصف القرن الماضي، لم يحدث أن توقّف النمو الديموغرافي الصيني، ولم يحدث أن تفوّقت دولة على الصين من حيث عدد السكّان.

لكن بين العامين 2022 و2023، ثمّة ما بدأ يتغيّر في ديموغرافيا الصين. وحلم الحصول على صفة "أكبر اقتصاد في العالم"، قد يصبح من الماضي اليوم، لصالح منافس شرس يتقدّم بسرعة اليوم. الهند، تسارع الخطى لترث نموذج الصين الاقتصادي، ولترث أيضًا تجربة الاقتصاد الناشئ الذي يتقدّم بسرعة ويزاحم كبار الاقتصادات المتقدمة على المراتب العالميّة الأولى، من ناحية حجم الناتج المحلّي.

تحوّلات مفصليّة بين العامين 2022 و2023
في العام 2022، توقّف للمرّة الأولى منذ أكثر من 73 سنة النمو الديموغرافي في الصين، ليسجّل نسبة صفر بالمئة. في العام الحالي، من المتوقّع أن يسجّل النمو الديموغرافي نسبةً سلبيّة، ما يعني أن الكتلة الديموغرافيّة في الصين ستبدأ بالإنكماش ابتداءً من هذا العام. وفي العام 2023، تترقّب الهند لحظة بلوغ عدد سكّانها عتبة 1.4 مليار نسبة، لتسبق بذلك الصين من حيث عدد السكّان، ولتصبح الدولة الأكبر في العالم من حيث الكتلة الديموغرافيّة. مع الإشارة إلى أنّ الدولتين معًا، ستحتويان وحدهما على نحو 36% من سكّان العالم، بحلول نهاية العام الحالي.

التحوّلات الثلاثة خلال هذا العام والعام الماضي، فتحت اليوم باب التساؤل عن مستقبل النموذج الصيني، وعن المنافسة الهنديّة الشرسة التي ستدخل على الخط. وفي دوائر القرار داخل الحزب الصيني، بدأ البحث عن نوعيّة التحديات التي ستواجهها الصين خلال العقود المقبلة.

لا تنتهي هواجس الحزب الشيوعي الصيني هنا. في الوقت الراهن، يبلغ متوسّط الأعمار في الصين نحو 39 سنة، ما يشير إلى أنّ الهرم السكّاني أو هرم الأعمار يزداد شيخوخة. في الهند، مازالت الصورة مختلفة جدًا، حيث لا يتجاوز متوسّط الأعمار حدود 28 سنة، فيما لا يتجاوز عمر 42.7% من السكّان حدود 25 سنة.

وفي النتيجة، من المترقب أن يصبح 1 من كل 5 عمّال في العالم هندياً، أي أنّ الهند ستستحوذ على 20% من القوّة العاملة في الكوكب بأسره. وفي حصيلة كل هذه العوامل، ستتوسّع الكتلة الديموغرافيّة الهنديّة لتبلغ حدود 1.7 مليار نسمة بحلول العام 2067، بينما ستتقلّص الكتلة الديموغرافيّة في الصين إلى أقل من مليار نسمة في نهاية القرن الحالي.

المسألة إذًا، لن تقتصر على سكّان فقط، بل على حجم القوّة العاملة المنتجة وتركيبتها وإنتاجيّتها. شيخوخة المجتمع بالنسبة للصين، ستعني عمّالاً أقل، وإنتاجيّة أقل، وكلفة أكبر على مستوى برامج التقاعد وشبكات الحماية المخصّصة لكبار السن. كما ستعني أن القوّة العاملة، الآخذة بالتقلّص، ستتحمّل أعباء أكبر لخدمة الشريحة السكّانيّة التي باتت في مرحلة التقاعد، والآخذة بالتوسّع كعدد وكنسبة من المجتمع. وهذا التطوّر بحد ذاته، سيفرض كلفة أكبر على مستوى الأجور والتقديمات الاجتماعيّة، التي تتكبّدها الشركات لخدمة صناديق التقاعد، ما يناقض نموذج اليد العاملة المنخفضة الأجر ويعكسه.

القوة السكانية الهندية
على المقلب الآخر، ينتعش النموذج الهندي، بالاستناد إلى سياسات رسميّة تبني –بذكاء وبراغماتيّة- على القوّة الديموغرافيّة للدولة، من خلال السياسات الهادفة لاستقطاب الشركات الصناعيّة الأجنبيّة، تمامًا كما فعلت الصين خلال العقود الماضية. ومن المنعطفات الأساسيّة التي تلقفتها الصين بحذر أيضًا، كان تقدّم الهند العام الماضي إلى المرتبة الخامسة عالميًا من ناحية حجم الناتج المحلّي، لتحل بذلك مكان المملكة المتحدة، بعدما بلغ حجم الناتج المحلّي الهندي حدود 3 ترليون دولار أميركي.

وبالتأكيد، تعلم الصين أنّ جزءاً أساسياً من هذا النمو –في الهند- يعتمد على كبرى الشركات الأجنبيّة والعالميّة التي بدأت تدريجيًّا بنقل عمليّاتها من الصين إلى الأراضي الهنديّة، للاستفادة من رزم الدعم والحوافز الضريبيّة التي تقدمها الحكومة الهنديّة، وتفاديًا للعقوبات التي تفرضها واشنطن على الصين، وسعيًا وراء خفض كلفة الرواتب والأجور والعمليّات (راجع المدن).

وعلى أي حال، يربط كثيرون اليوم ما بين تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني خلال السنوات الماضية، وتباطؤ نمو القوّة العاملة الصينيّة، مقابل بروز الهند كمنافس شرس للصين في العديد من القطاعات الاقتصاديّة.

أزمة بنية الأعمار: السياسات الرسميّة والتشوهات التاريخيّة
لمدّة 35 سنة، عملت الصين وفق سياسة "الطفل الواحد" الشهيرة، التي فرضت حوافز وعقوبات متعددة لإجبار الأسر الصينيّة على الاكتفاء بولد واحد. في العام 2016، أدركت الصين نوعيّة التشوّهات الديموغرافيّة التي أدّت إليها تلك السياسة، ومنها اقترابها من لحظة الدخول في ضمور ديموغرافي خطير، ما دفعها إلى الانتقال إلى سياسة الطفلين في ذلك الوقت، قبل الذهاب إلى سياسة الأطفال الثلاثة عام 2021.

ومع ذلك، لم يكن بإمكان الصين عكس هذا المسار بسهولة، كما لم يكن بإمكانها تحفيز الولادات وتحقيق نمو ديموغرافي أفضل، بمجرّد التخلّص من سياسة الطفل الواحد. فسياسة الطفل الواحد، التي امتدت لنحو ثلاثة عقود ونصف العقد، أنتجت جيلًا كاملًا من الأسر التي يقتصر أبناؤها على شخص واحد فقط، يُفترض أن يرعى في مراحل بلوغه أبويه، وأهلهما. بمعنى آخر، بات البالغ الصيني أمام أعباء أسريّة ترتبط بالأجيال السابقة، قبل أن يفكّر حتّى بإنجاب أبناء ورعاية الجيل اللاحق. ومن هنا، خلقت الصين نموذجًا مجتمعيًا مشوّهًا، يفرض الإنكماش الديموغرافي كنتيجة حتميّة، ما أفشل جميع الحوافز التي قدمتها مؤخرًا الحكومة الصينية لزيادة معدلات الإنجاب.

في الوقت نفسه، ساهمت مجموعة من العوامل الاجتماعيّة في تقليص معدّل الولادات في الصين، شأنها شأن الكثير من الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، مثل تأخّر متوسّط سن الزواج، وارتفاع نسبة غير المتزوّجين على الإطلاق، أو تفضيل جيل الشباب الجديد عدم الإنجاب حتّى في حال الزواج، لأسباب اقتصاديّة في أغلب الأحيان.

النتائج المتوقّعة
أبرز النتائج المتوقّعة جرّاء هذه التطوّرات، هي محاولة انتقال الحكومة الصينيّة لتعزيز تنافسيّة اقتصادها في بعض القطاعات التي لا تعتمد على اليد العاملة الوفيرة والمنخفضة الأجر، كالقطاع التكنولوجي والصناعات الإلكترونيّة، وهذا ما حاولت الصين القيام به أساسًا في مجالات صناعة الهواتف الذكيّة والسيارات الكهربائيّة وغيرها. إلا أنّ الصين ستكون قد دخلت في منافسة مباشرة مع كبار اللاعبين في الاقتصادات المتقدمة الأخرى، وهو ما فتح عليها منذ فترة جهنّم العقوبات والحروب التجاريّة مع الولايات المتحدة الأميركيّة. ولعل حرب صناعة الرقائق الإلكترونيّة، والعقوبات التي جرى فرضها على الصين في هذا المجال، كانت أولى معالم هذا النوع من النزاعات التجاريّة.

على المقلب الآخر، سيكون من المتوقّع بروز الهند كلاعب اقتصادي جديد في منطقة شرق آسيا، ما سيسمح لهذه الدولة السعي لترجمة نفوذها الاقتصادي على المستوى السياسي، تمامًا كما حاولت أن تفعل الصين مؤخّرًا. ومن شأن هذا التطوّر أن يدفع منطقة جنوب وشرق آسيا باتجاه توازن أكبر، في مقابل محاولات التوسّع الصينيّة، لكنّه سيدفع أيضًا باتجاه مواجهات أكثر سخونة مع الدور الهندي المتنامي. إلا أنّ الحديث عن هذا النوع من التوازنات الجديدة ما زال مبكرًا حتّى اللحظة، بانتظار تبلور الدور الاستراتيجي الذي تبحث عنه الهند بشكل أفضل.

في الوقت نفسه، ستكون الصين على موعد مع المزيد من الضغوط الاقتصاديّة على المدى البعيد، والتي ستُضاف إلى ضغوط أخرى من قبيل تعثّر الكثير من استثمارات مبادرة الحزام والطريق، وتراكم الديون المصرفيّة المتعثّرة التي جرى منحها كجزء من هذه المبادرة. مع الإشارة إلى أنّ هذه المبادرة بالتحديد، كانت رهان الصين الأساسي للبحث عن دور اقتصادي يتخطّى حدودها المباشرة، فيما تعاني الكثير من استثمارات هذه المبادرة من صعوبات ناتجة عن ارتفاع الفوائد في الأسواق العالميّة، وتنامي قوّة الدولار في مقابل عملات الاقتصادات الناشئة التي استثمرت فيها الصين.

وأمام كل هذه التطوّرات، لن يكون بإمكان الصين أن تتوقّع الاتجاه نحو احتلال مرتبة الاقتصاد الأقوى في العالم، من حيث حجم الناتج المحلّي، بعدما راهنت لسنوات طويلة على أن تنتزع هذه الصفة من الولايات المتحدة الأميركيّة. ورغم كل التباطؤ الاقتصادي الذي ستعيشه الاقتصادات المتقدمة على المدى المتوسّط، ورغم أن تقدّم الهند اللافت سيؤكّد أن مراكز القوّة الماليّة في العالم تتجه جنوبًا شيئًا فشيئًا، إلا أن الصين ستضطر إلى التقليص من حجم طموحاتها المرتبطة بهذا التطوّر بالتحديد.