نموذج الاقتصاد الاستعماري بالضفّة الغربيّة: إما الانفجار أو السحق

علي نور الدين
الخميس   2023/10/26
خلقت إسرائيل في الضفة الغربية نموذجًا اقتصاديًا استعماريًا لا شبه له (Getty)

حتّى مساء يوم أمس الأربعاء، كانت حصيلة شهداء الضفّة الغربيّة قد ارتفعت لحدود 104 شهداء، منذ بدء الحرب على قطاع غزّة. أمّا عدد المعتقلين خلال الفترة نفسها، فتجاوز 1380 شخصًا حتّى صباح اليوم الخميس، وفقًا لنادي الأسير الفلسطيني. ورغم أنّ فظاعة المشاهد الآتية من قطاع غزّة غطّت إعلاميًّا على ما يجري في الضفّة، إلا أنّ تطوّرات الأيّام الماضية كشفت بعض التحوّلات المهمّة التي لا ينبغي تجاوزها، عند تحليل ما يجري حاليًا.

فقسوة الجيش الإسرائيلي في التعامل مع تصاعد احتجاجات الضفّة، وصولًا إلى استعمال الغارات الجويّة لتنفيذ الاغتيالات هناك لأوّل مرّة منذ أكثر من عقدين، أظهرت خشية الإسرائيليين الجديّة من عوامل التفجّر الحاضرة هناك، مع كل الاستنزاف الذي يمكن أن يسببه تشعّب شبكة المستوطنات التي يفترض أن يحميها في هذه الحالة.

عوامل التفجّر: وضعيّات سياسيّة واقتصاديّة هجينة
وضعيّة الضفّة الغربيّة على مرّ العقود الماضية، كانت حافلة بالتراكمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، التي لا يمكن أن تُنتج إلا هذا النوع من الانفجارات الأمنيّة القاسية، في وجه النموذج الإداري والسياسي الذي خلقه الاحتلال الإسرائيلي هناك. بصورة أوضح، لقد مارس الاحتلال في منطقة الضفّة قوّة تسلّطيّة هجينة لم تقتصر على تشييد المستوطنات واقتطاع أراضي الفلسطينيين، بل خلقت أيضًا نموذجًا اقتصاديًا استعماريًا -بالمعنى الحرفي للكلمة- يصعب العثور على شبيه له في العصر الحديث.

هناك، حرص الاحتلال على فرض وضع قانوني شائك ومرتبك يسمح له بالتملّص من الإلتزام بأي حدود جغرافيّة لدولته، للهيمنة على أراضي الفلسطينيين وتوطين الآخرين فيها، من دون الاضطرار لاستيعاب سكّان القرى والمدن الفلسطينيّة، ومن دون تمكينهم من خلق دولة متكاملة. بالتوازي، وبالشكل نفسه، خلق الاحتلال اقتصادًا مركّبًا يمنع الفلسطينيين من خلق مساحتهم النقديّة والماليّة الخاصّة، ويحرص على تبعيّتهم لاقتصاد إسرائيل نفسها، من دون أن تلزم –في المقابل- إسرائيل نفسها بأي إلتزامات كسلطة احتلال بحكم الأمر الواقع في الضفّة. هذا الاقتصاد المركّب، شأنه شأن الواقع السياسي والاستيطاني الهجين، سيبقى قنبلة الضفّة الغربيّة الموقوتة.

إشكاليّة النموذج الاقتصادي المركّب الموجود في الضفّة الغربيّة، الذي بُني بشكل طبيعي على وضعيّة سياسيّة واستيطانيّة هجينة، لم تقتصر على عدم تناسبه مع مبادئ العدالة الطبيعيّة، المرتبطة بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وفي حقّها بدول تملك سيادتها على الاقتصاد والنقد المحلّي. الإشكاليّة الأهم، كانت في النتائج المعيشيّة المباشرة على أهل الضفّة، وعلى التحوّلات المجتمعيّة التي خلّفها هذا الوضع، وهو ساهم –جنبًا إلى جنب مع المظلوميّة السياسيّة- في مفاقمة عوامل التفجّر الكامنة.

الاقتصاد الاستعماري: تأبيد الترتبيات المؤقّتة
البحث في النموذج الاقتصادي القائم في الضفّة، يفرض العودة إلى بروتوكول باريس الاقتصادي، الذي جاء كجزء أساسي من اتفاقيّة أوسلو الثانية عام 1995 (أو اتفاقيّة طابا، المعروفة أيضًا بالاتفاق الانتقالي بشأن الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة). يومها، وضع البروتوكول مجموعة من الترتيبات الماليّة والاقتصاديّة والنقديّة المؤقّتة، مع خطّين تحت عبارة مؤقّتة، من ضمن الاتفاق المرحلي الذي كانت تنشأ بموجبه –وبشكل تدريجي- السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة. ولهذا السبب، لم يكن من المفترض أن يتم تطبيق هذا البروتوكول الاقتصادي، بصيغته الهجينة والمركبة، لأكثر من خمس سنوات، يجري خلالها استكمال تشكّل السلطة الفلسطينيّة (أو بالأحرى، مكوّنات الدولة الفلسطينيّة الكاملة).

بموجب الاتفاق الهجين، وضع الاقتصاد الفلسطيني (في منطقتي الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة) كمكوّن ضمن الاقتصاد الإسرائيلي، لا أكثر. وبشكل أوضح، تم وضع المناطق الفلسطينيّة ضمن اتحاد جمركي مع إسرائيل نفسها، بما يسمح لإسرائيل بجباية الرسوم الجمركيّة والضريبة على القيمة المضافة، بالنيابة عن السلطة الفلسطينيّة، فيما تُرك للإسرائيليين صلاحيّة تحويل هذه المستحقات للسلطة الفلسطينيّة لاحقًا. كما ظلّت تداولات المناطق الفلسطينيّة التجاريّة مع العالم الخارجي محكومة بالمعابر والمرافئ الإسرائيليّة، مقابل فتح الأسواق الفلسطينيّة للسلع الإسرائيليّة. وبالشكل نفسه، ظلّت المناطق الفلسطينيّة محكومة بالتعامل بالشيكل الإسرائيلي الجديد، بما يشبه الاتحاد النقدي مع إسرائيل، إنما من دون مساهمة الفلسطينيين بتحديد أي من معالم السياسة النقديّة لهذا الاتحاد.

على مرّ السنوات اللاحقة، سقط مسار السلام بشكل متدرّج، وتم التغاضي عن استكمال الغالبيّة الساحقة من مندرجاته، ومنها تلك المتعلّقة بسيادة السلطة الفلسطينيّة على منطقة الضفّة الغربيّة. وبهذا المعنى، سقطت الترتيبات التي كان يفترض أن تأتي من ضمنها، كإجراءات مرحليّة، أحكام بروتوكول باريس الاقتصادي. ومع ذلك، ظلّت تدابير بروتوكول باريس سارية المفعول حتّى اليوم، ما أبّد عمليًا الترتيبات المؤقّتة حتّى اليوم.

بهذا الشكل، استكملت إسرائيل قضم مناطق الضفّة الغربيّة المفتوحة، لمصلحة مشاريع الاستيطان، ومن دون ضم المناطق ذات الثقل السكّاني العربي إلى سيطرتها وسيادتها، لأسباب ديموغرافيّة وأمنيّة. وبالتوازي، كانت إسرائيل تعفي نفسها من واجباتها كسلطة احتلال بحكم الأمر الواقع، في المناطق العربيّة، لحساب السلطة الفلسطينيّة المتهالكة، إنما مع قضم سيادة هذه السلطة على اقتصادها وماليّتها العامّة. وتكامل بذلك النموذج الاستيطاني مع نموذج الاقتصاد الاستعماري، الذي يُعد تركيبة إسرائيليّة خالصة لا توجد في مكان آخر من هذا العالم.

نتائج النموذج الاقتصادي الهجين
كان من الطبيعي، في ظل هذا النموذج الهجين، أن يتم حرمان مدن وقرى الضفّة من مساحاتها المفتوحة، ذات الأهميّة الاستراتيجيّة في القطاعين الزراعي والصناعي. وكان من الطبيعي أيضًا أن تستعمل إسرائيل هيمنتها الأمنيّة والعسكريّة في القطاع، للتضييق على رخص استيراد المواد الأوليّة، ومنح الرخص الصناعيّة، وصولًا إلى تهشيم القطاعات الصناعيّة في كبرى التكتلات الصناعيّة الفلسطينيّة التقليديّة، مثل مدينة الخليل. وبهذا الشكل، تحوّلت فئات واسعة من المجتمع الفلسطيني للعمل كأجراء في المستوطنات، التي أخذت مكانة مدن وقرى الضفّة الاقتصاديّة، بدلًا من تملّك الفلسطينيين المؤسسات الصغيرة والمتوسّطة كما كان الحال سابقًا.

في الوقت نفسه، كانت سلطة الاحتلال تواظب على تجميد التحويلات إلى الأموال للسلطة الفلسطينيّة، من أموال دافعي الضرائب الفلسطينيين، بل وصادرت هذه الأموال في كثير من المحطات للتعويض عن أضرار الهجمات على المستوطنين. وبذلك، كانت إسرائيل تستقيل من إلتزاماتها في المناطق المحتلّة، بحكم الأمر الواقع، لمصلحة سلطة لا تملك مقوّمات تقديم أي خدمات أو شبكات حماية ذات شأن للفلسطينيين. وفي النتيجة، باتت السلطة الفلسطينيّة رهينة المساعدات الخارجيّة، للتمكّن من تأمين الحد الأدنى من الأموال المطلوبة لتسديد رواتب الموظفين الحكومين. مع الإشارة إلى أنّ هذه التبرّعات انخفضت في بعض المراحل، كما حصل بعد تفشّي وباء كورونا، من مليار دولار أميركي إلى أقل من 200 مليون دولار سنويًا، وهو ما زاد من هشاشة السلطة إلى حد كبير.

في بيئة من هذا النوع، تحوّلت المناطق الفلسطينيّة إلى مجرّد خزّان بشري يرفد المستوطنات والداخل الإسرائيلي بالعمال الرخيصة الوافدة، بعدما تجاوز عدد الفلسطينيين العاملين في إسرائيل حدود 92 ألف عامل، وهو ما يضاف إلى 25 ألف عامل في مستوطنات الضفّة الغربيّة نفسها، والآلاف من المياومين العاملين من دون تراخيص قانونيّة. وبهذا الشكل، باتت نصف القوّة العاملة الفلسطينيّة في الضفة رهينة العمل تحت السيادة الإسرائيليّة، وهو واقع استثمرته إسرائيل سياسيًا عبر التضييق على رخص العمالة الممنوحة للفلسطينيين في الكثير من المحطات.

أمّا إمساك إسرائيل بمنافذ التصدير والإستيراد، فتحوّل أداة بيد الحكومات الإسرائيليّة لحصار الضفّة الغربيّة اقتصاديًا، عبر منعها من تصدير جزء كبير من إنتاجها الزراعي والصناعي إلى الخارج، أو إلى إسرائيل نفسها. ومع الوقت، باتت الضفّة أسيرة استهلاك السلع والمنتوجات الإسرائيليّة، التي باتت تغذّي أكثر من 55% من حاجات الضفّة الغربيّة الاستهلاكيّة.

في نتيجة الأمر، ما فعلته إسرائيل لم يكن اندماجًا طوعيًا أو طبيعيًا ما بين اقتصادين متجاورين، بل استعمارًا اقتصاديًا على منطقة مسحوقة أمنيًا واجتماعيًّا وسياسيًا. يكفي للدلالة على هذا الأمر الإشارة إلى أنّ معدلات البطالة ارتفاع في الضفّة الغربيّة لتتجاوز حدود 17%، مقارنة بأقل من 3.1% في إسرائيل، فيما تجاوز نصيب الفرد من الدخل الإجمالي حدود 47 ألف دولار أميركي في إسرائيل، مقارنة بأقل من 3,300 دولار في الضفة الغربيّة. هذا التفاوت الكبير في المقدّرات الاقتصاديّة بين شعبين، خضعا "لوحدة جمركيّة ونقديّة وماليّة" منذ عام 1994، يشير إلى أنّ ما جرى طوال العقود الثلاث الماضية كان استلاباً اقتصادياً ممنهجاً، على حساب الوضع المعيشي والاجتماعي للفلسطينيين.