"السقف" الأوروبي لأسعار النفط الروسي: ضربة لأوبيك قبل بوتين

علي نور الدين
الجمعة   2022/12/09
القرار الأوروبي استهدف أسواق النفط لا عائدات روسيا وحدها (Getty)
ابتداءً من يوم الإثنين الماضي، دخل قرار الاتحاد الأوروبي ودول مجموعة السبع، القاضي بوضع سقف لشراء النفط الروسي، حيّز التنفيذ. على هذا الأساس، ستلتزم الدول المعنيّة بالإجراء بعدم السماح لناقلات نفطها بالانخراط في أي صفقة لشراء نفط روسي، إلا إذا تم الإلتزام بشرائه بسعر لا يتجاوز 60 دولارًا للبرميل. وبهذا المعنى، ستكون هذه الدول قد فرضت نوعًا جديدًا من العقوبات على روسيا، بما يطال هذه المرّة قيمة النفط الذي تبيعه، لا نوعيّة السلع التي يمكن بيعها. أمّا الهدف المعلن من هذه القيود، فهو "حرمان روسيا من الاستفادة من عوائد بيع النفط لتمويل حربها العدوانيّة في أوكرانيا".

الأثر المالي على روسيا
ثمّة تساؤلات كبيرة حول النوايا الفعليّة، أو بالأحرى الأهداف الاقتصاديّة الملموسة، التي تقف خلف اتخاذ هذا الإجراء. فرزمات العقوبات السابقة، التي فرضها الدول الغربيّة على روسيا، تركت بالفعل آثاراً قاسية على الاقتصاد والنظام المالي الروسيين، وتحديدًا بالنسبة إلى العقوبات التي طالت واردات روسيا من المكونات الصناعيّة. إلا أنّ القيود الجديدة ما زالت بعيدة عن تشكيل ضربة فعليّة لإيرادات الاقتصاد الروسي أو نظام بوتين، من بيع النفط في الأسواق الدوليّة، وخصوصًا إذا ما أخذنا بالاعتبار تجارب القيود على شحنات النفط السابقة.

فمن الناحية العمليّة، تمثّل الإيرادات البتروليّة 45% من إيرادات الدولة الروسيّة، ونحو 20.2% من الناتج المحلّي الإجمالي الروسي، وفقًا لأرقام الربع الثاني من العام الراهن. وهو ما يفسّر حساسيّة القيود المستجدة، على الدولة التي تملك ثالث أكبر احتياطي نفطي في العالم، وخامس أكبر قوّة إنتاج سنويّة من النفط.

لكنّ سقف الأسعار الذي تم فرضه بموجب هذه الإجراءات، تم تحديده عند نحو 60 دولارًا للبرميل، أي بما يقل بنحو 5 دولارات فقط عن سعر برميل خام الأورال الروسي، الذي يبلغ اليوم 65 دولارًا. وبهذا المعنى، وحتّى لو نجحت الدول الغربيّة بفرض هذا السقف بشكل صارم على جميع الصادرات البتروليّة الروسيّة (وهذا مستحيل)، لن تكون النتيجة سوى حرمان النظام الروسي من 10 مليارات دولار من عائدات بيع النفط سنويًّا، من أصل أكثر من 240 مليار دولار يتوقّع أن تجنيها روسيا كعائدات من بيع النفط هذه السنة. بمعنى أوضح، لن يحمل سقف الأسعار الجديد أي تأثير وازن على مردود بيع النفط الروسي، الذي يتم استعماله في الحرب الأوكرانيّة، كما يعتقد البعض. مع العلم أن النظام الروسي يتحمّل أساسًا حسومات تفوق هذا القدر من قيمة برميل نفطه، في عمليّات بيع المحروقات في السوق السوداء.

أبواب التملّص من سقف الأسعار
بمعزل عن الأثر المالي المباشر، ثمّة شكوك كبيرة حول قدرة دول السبع والاتحاد الأوروبي على فرض سقف الأسعار كمرجعيّة لتسعير النفط الروسي. فروسيا لجأت منذ بداية غزوها لأوكرانيا إلى إعادة هيكلة سلاسل إمداد نفطها، عبر عقد شراكات استراتيجيّة مع مشترين غير مقيّدين بالعقوبات والقيود الغربيّة، كالصين والهند وتركيا، الذين يشترون معًا اليوم أكثر من 68% من إنتاج روسيا النفطي.

أمّا في ما يخص باقي الإنتاج، الذي تبيعه روسيا في أسواق أخرى، فلروسيا أبواب أخرى للتملّص من هذا النوع من القيود، من قبيل توريد النفط إلى مصافٍ أجنبيّة، حيث يتم تكريره وإنتاج مشتقات نفطيّة أخرى، ومن ثم تسويقها كمحروقات ذات منشأ آخر غير روسي. كما أنشأت روسيا أساسًا –بعد الحرب الأوكرانيّة- أسطولًا من أكثر من 100 ناقلة نفط، مسجّلة بأسماء شركات وهميّة تم إنشاؤها في جنّات ضريبيّة مختلفة، للتحايل على العقوبات الغربيّة وتسويق نفطها من دون الإشارة إلى مصدره. مع الإشارة إلى أنّ هذا الأسطول تم ضمّه إلى نحو 180 ناقلة نفط أخرى كانت مملوكة من قبل شركات روسيّة، حيث تم نقل ملكية هذه الناقلات من الشركات الروسيّة إلى شركات وسيطة أجنبيّة وهميّة، لغاية التحايل على العقوبات أيضًا.

كل هذه القنوات، تم استعمالها بالفعل طوال الأشهر الماضية، للتملّص من القيود والعقوبات الغربيّة، ولو أن الروس اضطرّوا إلى إجراء حسومات كبيرة من قيمة النفط المباع للتمكّن من بيعه للشركاء غير الغربيين، أو تهريبه عبر الشركات الوسيطة الوهميّة إلى السوق السوداء.

ومن المتوقّع اليوم أن تستمر روسيا باعتماد الأساليب نفسها، لعدم الإلتزام بسقف الأسعار المفروض، وعدم اعتماده كمرجعيّة واقعيّة لتحديد سعر البيع، ولو اضطرّت روسيا –مجددًا- إلى إجراء حسومات إضافيّة. فإشكاليّة سقف الأسعار بالنسبة إلى النظام الروسي لا تكمن في اقتصاصه من قيمة النفط المباع، والذي تقوم روسيا أساسًا ببيعه في السوق السوداء بحسومات تفوق نسبة نسبة الاقتصاص هذه، بل تكمن الإشكاليّة الأولى في خشية الروس من تكريسه كمرجع للأسعار، يعود أمر تحديده إلى الدول السبع والاتحاد الأوروبي.

ببساطة: بيع النفط في السوق السوداء، ولو بأقل من سقف الأسعار المعلن، يبقى أفضل للروس من بيع النفط للشركات الغربيّة وفق عقود تلتزم بسقف الأسعار المعلن، لعدم التسليم بمرجعيّة السقف في العقود. مع العلم أنّ روسيا تخشى من تخفيض السقف المعلن تدريجيًّا، بمجرّد تكريسه كمرجعيّة في السوق.

ضربة لأوبيك+؟
هكذا، يبرز تلقائيًّا السؤال عن غاية أو جدوى هذا القرار، بالرغم من معرفة الدول السبع والاتحاد الأوروبيّ بمحدوديّة سيطرتهم على سوق النفط الروسي. عمليًّا، يشير العديد من المتابعين إلى أنّ ما يجري اليوم يمثّل ضربة غربيّة لتحالف أوبيك+ بشكل أساسي، لا روسيا وحدها. فالنتيجة العمليّة لهذا القرار لن تكون فرض سقف الأسعار كمرجعيّة تسعير، بل إجبار روسيا على تقديم تنازلات وحسومات أكبر في علاقتها مع مشتري النفط في الهند والصين وتركيا والسوق السوداء، نتيجة القيود الإضافيّة التي سيفرضها سقف الأسعار. وبذلك، سيكون القرار قد لعب دورًا معاكسًا لخطوة خفض الإنتاج التي اتخذتها مجموعة أوبيك+، عبر ضغطه باتجاه خفض أسعار النفط بشكل عام في السوق العالميّة.

من ناحية أخرى، يمكن القول أن مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي سيمثّلون ابتداءً من هذا الأسبوع كارتيل من مشتري النفط في السوق العالميّة، الذين ينازعون أوبيك+ سيطرتها على آليّات تحديد السعر، وهو ما سيمثّل سابقة على مستوى علاقة الدول الصناعيّة التفاوضيّة مع أوبيك+. وهذه الخطوة، قد تكون مقدّمة لمجموعة من الخطوات المماثلة، التي قد لا ترتبط بالإنتاج الروسي وحده، والتي قد تهدف إلى الضغط لتخفيض أسعار النفط.

رئيسة المفوضيّة الأوروبيّة آورسولا فون دير لاين، لم تخفِ اتصال القرار بديناميكيات أسعار النفط العالميّة، حين أشارت إلى أنّ تحديد سقف للأسعار سيأتي بالفائدة على الدول النامية، التي ستستفيد من حسومات إضافيّة على النفط الروسي. وتجدر الإشارة إلى أنّ خطوة تشكيل كارتيل من مشتري مصادر الطاقة لم تكن فكرة جديدة بالنسبة للدول الأوروبيّة، إذ لطالما سعى الرئيس الفرنسي إيمانيول ماكرون إلى تسويق أفكار كهذه داخل الاتحاد الأوروبي، إنما بالنسبة إلى الغاز الطبيعي والمسال. أمّا اليوم، فيبدو أن فكرة ماكرون قد دخلت حيّز التنفيذ، إنما من باب القيود والعقوبات على روسيا.

في جميع الحالات، كان من الواضح أن قرار فرض سقف الأسعار سرعان ما ترك آثاره على أسعار النفط العالميّة، بعدما انخفض سعر برميل نفط برنت إلى 77 دولاراً أميركياً للبرميل، في أدنى مستوى له من كانون الثاني الماضي، وهو ما أبطل مفعول تخفيض الإنتاج الذي اتخذته أوبيك+ سابقًا. وبذلك، أكّدت هذه التطوّرات جميع التحليلات التي أكدت أن هذا القرار استهدف منذ البداية التأثير على توازنات العرض والطلب في أسواق النفط، وسعر برميل النفط، لا عوائد النظام الروسي، التي لم تتأثّر كثيرًا بهذا القرار.