سعران رسميان للدولار في موازنة 2022: حماية المصارف أولاً

علي نور الدين
الجمعة   2022/01/07
موازنة 2022: انفصام سعر الصرف الرسمي! (Getty)

لا يمكن وصف ما يتم التحضير له في موازنة العام الحالي إلا بعبارة "البلهوانيّات الماليّة"، الغريبة عن أبسط بديهيّات إدارة الشأن العام، وخصوصًا في ما يتعلّق بمسألة سعر الصرف الرسمي المعتمد من قبل الدولة اللبنانيّة. فمنذ حصول الانهيار المالي، شهد اللبنانيّون ظاهرة تعدد أسعار الصرف، بما فيها تلك المعتمدة للسحوبات من المصارف، أو دعم استيراد السلع الأساسيّة، بالإضافة إلى تلك المعتمدة في منصّة مصرف لبنان للتداول بالعملات الأجنبيّة. لكن إلى جانب كل أسعار الصرف المتباينة، ظلّت الدولة اللبنانيّة تعتمد سعر الصرف الرسمي القديم، أي 1507.5 ليرة مقابل الدولار، في معاملاتها مع مصرف لبنان، وفي معاملات مصرف لبنان مع المصارف التجاريّة، بالإضافة إلى الغالبيّة الساحقة من المعاملات الضريبيّة وطريقة تصريح المصارف ومصرف لبنان عن أرقامهم الماليّة.

أمّا اليوم، فيبدو أن الدولة اللبنانيّة تتجه إلى ما يمكن وصفه بانفصام سعر الصرف الرسمي، من خلال إبقائه على حاله بالنسبة إلى تداولات المصارف مع مصرف لبنان، وطريقة تحضير ميزانيّاتهما، في مقابل زيادته في عمليّة احتساب الرسوم والضرائب ونفقات وإيرادات الدولة اللبنانيّة، بالإضافة إلى العقود الرسميّة. وبهذا الإجراء المحاسبي الهجين وغير المألوف، ستكون الدولة اللبنانيّة قد حمت رساميل القطاع المصرفي من أثر رفع سعر الصرف الرسمي، المعتمد للتصريح عن التزامات القطاع بالدولار، في مقابل تحميل المقيمين كلفة زيادة سعر الصرف المعتمد لسداد الرسوم الضريبيّة، بالإضافة إلى الكلفة التي تتكبدها الدولة لشراء الدولار من مصرف لبنان. مع الإشارة إلى أنّ هذه الفكرة جاءت بدفع من حاكم مصرف لبنان، في مداولاته مع وزارة الماليّة.

المفارقة الأساسيّة هنا لن تكمن في إضافة سعر صرف جديد على أسعار الصرف المتعددة أصلًا، بل في اعتماد الدولة اللبنانيّة على سعرين رسميين مختلفين للصرف، في إجراء لا يهدف إلا لحماية مصالح فئة محدودة من كبار النافذين في القطاع المصرفي. وهذه المقاربة، تسير من الناحية العمليّة بعكس الاتجاه المطلوب من لبنان في مفاوضاته مع صندوق النقد، الذي يشترط في العادة الإتجاه نحو سعر صرف موحّد وعائم تعتمده الدولة والأسواق التجاريّة في مختلف التعاملات التجاريّة والرسميّة.

تحييد المصارف عن تعديل سعر الصرف
كما هو معلوم، تقوم المصارف أساسًا على رساميل مقوّمة بالليرة اللبنانيّة، كما تصرّح حاليًّا عن أرقامها الماليّة بالليرة أيضًا، وبعد احتساب الإلتزامات والموجودات بالعملات الأجنبيّة حسب سعر الصرف الرسمي القديم. وهذا الإجراء، سمح للمصارف بإخفاء نسبة كبيرة من خسائرها المتراكمة، والمتمثّلة بالفارق بين الإلتزامات والموجودات المتبقية بالعملة الصعبة، من خلال التصريح عن إلتزاماتها للمودعين بالعملات الأجنبيّة بسعر صرف منخفض جدًّا قياسًا بقيمة الدولار الفعليّة السوق. وبمجرّد تعويم سعر الصرف الرسمي، كان من المفترض أن تنكشف هذه الفجوة الهائلة في الميزانيّات، ما يحتّم التعامل معها. ولهذا السبب بالتحديد، لم تمتلك المصارف الحماسة يومًا لتعويم أو توحيد سعر الصرف، بل عرقلت في العديد من المحطات بعض أدوات توحيد سعر الصرف، كما فعلت مؤخرًا حين تغاضت عن العمل بمنصّة مصرف لبنان في الفروع المصرفيّة.

من ناحية أخرى، استفادت المصارف من سعر الصرف الرسمي المنخفض لشراء "الدولار المحلّي" في حساباتها لدى المصرف المركزي، الذي يمثّل أرصدة مصرفيّة في مصرف لبنان لا يمكن تحويلها إلى الخارج، تمامًا كدولارات المودعين العالقة في المصارف. وهذه الدولارات المحليّة، التي اشترتها المصارف، تم استخدامها طوال الفترة السابقة لتمويل بعض النفقات التشغيليّة محليًّا، أو لتحويل جزء من رواتب موظفي المصارف إلى اللولار بسعر الصرف الرسمي، بدل إجراء تصحيح لأجور هؤلاء الموظفين. بل وفي محطّات معيّنة بعد حصول الانهيار، قامت المصارف بعمليّات استثنائيّة شبيهة بالهندسات الماليّة على أساس سعر الصرف الرسمي، بهدف إعادة تعويم رساميلها.

باختصار، تعارضت فكرة تغيير سعر الصرف الرسمي مع كل ما يجري حاليًّا، على مستوى عدم التعامل مع خسائر المصارف التجاريّة، لمصلحة حماية رساميلها. ولهذا السبب بالتحديد، دفع حاكم مصرف لبنان إلى سياسة تحييد القطاع المصرفي عن تغيير سعر الصرف الرسمي، من خلال الإبقاء على سعر الصرف هذا في كل ما يتعلّق بتعاملات المصارف مع مصرف لبنان، وطريقة التصريح عن الموجودات والإلتزامات المصرفيّة. مع الإشارة إلى أن هذه الخطوة ستعني عمليًّا تأجيل تصحيح طريقة إعداد الميزانيّات المصرفيّة، التي لا تعكس اليوم وضعيّة القطاع كما هو، وخصوصًا من ناحية كفاية رساميله.

سائر المقيمين سيدفعون الثمن
بالتوازي مع تحييد القطاع المصرفي عن رفع سعر الصرف الرسمي، يتم التداول بسيناريوهات عدّة لسعر الصرف المعتمد من قبل الدولة في عمليّات احتساب الرسوم والضرائب وتنفيذ العقود الرسميّة، ومنها اعتماد سعر 9000 ليرة مقابل الدولار لهذه الغاية. وبهذه الطريقة، من المتوقّع أن تتضاعف الرسوم الجمركيّة وضريبة الأرباح التي تدفعها الشركات التجاريّة بنحو 6 مرّات بمجرّد إقرار الموازنة، وهو ما سيؤدّي إلى قفزة سريعة في معدلات التضخّم. مع العلم أن حاكم مصرف لبنان يضغط في الوقت الراهن باتجاه اعتماد تسعيرة المنصّة لبيع الدولار للدولة اللبنانيّة وقطاع الاتصالات ومؤسسة كهرباء لبنان، وهو ما سيفرض زيادة سريعة في كلفة الخدمات التي تقدّمها هذه المؤسسات.

أهم ما في الموضوع، هو أن هذه الخطوة مازالت في إطار الخطوات "الترقيعيّة" التي تهدف إلى التعامل مع أثر تدهور سعر الصرف على ماليّة الدولة، بعد أن تراجعت قيمة هذه الإيرادات مع تراجع قيمة الليرة اللبنانيّة. لكنّ الاتجاه نحو رفع سعر صرف الرسمي يأتي اليوم بمعزل عن أي معالجة جذريّة للفوضى القائمة حاليًّا في سوق القطع، لا بل من المتوقّع أن يزيد هذا الإجراء الطين بلّة عبر زيادة سعر صرف جديد إلى الأسعار المتعددة الموجودة حاليًّا.

وعلى أي حال، من الواضح أن الموازنة التي يتم التحضير لها اليوم، وسعر الصرف المعتمد فيها، جاءا بمعزل عن الخطّة الماليّة التي كان يفترض أن تتعامل مع أزمتي العجز في الميزانيّة العامّة وتعدد أسعار الصرف، خصوصًا أن اللجنة الحكوميّة المكلّفة بالتفاوض مع صندوق النقد لم تُنجز بعد الجزء المرتبط بالمعالجات والسياسات التصحيحيّة في الخطّة.