المصارف اللبنانية "تربح" بالمحاكم الأجنبية: العدل بالظلم

علي نور الدين
الخميس   2021/12/23
إنصاف جميع المودعين غير ممكن بالقرارات القضائيّة وحدها (عباس سلمان)

بخلاف المتوقّع، جاء حكم القضاء البريطاني في القضيّة المرفوعة في وجه "بنك لبنان والمهجر" لمصلحة المصرف، بعد أن قضت المحكمة بإمكانية سداد الدين المتوجّب لمصلحة المودع بموجب شيك مصرفي محلّي، وعدم وجود ما يلزم المصرف بإجراء التحويل المطلوب من قبل المودع إلى الخارج. مع الإشارة إلى أن هذه القضيّة كانت قد رُفعت ضد المصرف من قبل المودع بلال خليفة، طالب بموجبها خليفة باسترداد قيمة وديعته البالغة نحو 1.4 مليون دولار، بموجب تحويل مباشر إلى الخارج، فيما حاول البنك فرض سداد قيمة الوديعة بموجب شيك مودع لدى كاتب العدل.

أهميّة استثنائيّة للقرار
يكتسب الحكم البريطاني الأخير أهميّة استثنائيّة في سياق الدعاوى المرفوعة ضد المصارف اللبنانيّة في الخارج، لكونه يسبق حُكمين مُنتظرين في دعاوى مرفوعة ضد بنك سوسيتيه جنرال والبنك اللبناني الفرنسي في المحاكم البريطانيّة. ومن الناحية العمليّة، مثّلت الدعاوى الثلاث مجتمعةً التهديد القانوني الأكثر جديّة الذي تواجهه المصارف في الخارج، خصوصًا بعد أن أعطى القضاء البريطاني نفسه صلاحيّة النظر في هذه القضايا بشكل صريح لا لبس فيه، وهو ما دفع الرأي العام إلى ترقّب مسار الدعاوى الثلاث.

مع العلم أن الدعوى التي واجهها بنك لبنان والمهجر كانت القضيّة الأولى التي أعطى القضاء البريطاني نفسه حق النظر فيها في أيلول 2020، ومثّل ذلك القرار سابقة ارتكزت عليها المحاكم البريطانيّة لقبول النظر في الدعاوى الأخرى بحق سوسيتيه جنرال والبنك اللبناني الفرنسي، والتي من المفترض أن تصدر القرارات النهائيّة فيها خلال العام المقبل، بعد أن صدر الآن القرار الأخير لمصلحة بنك لبنان المهجر.

في كل الحالات، لم يمثّل الحكم الأخير القضيّة الوحيدة التي تمكّن المصرف من الفوز بها، إذ أصدرت المحاكم الأردنيّة والفرنسيّة قرارين مماثلين لمصلحة المصرف نفسه خلال الفترة الماضية. وهو ما يؤشّر إلى أن هذا النوع من الأحكام لمصلحة المصارف يمكن أن يتحوّل إلى نمط متكرّر في جميع القضايا المشابهة. وبذلك، يكون القرار الذي حكم به القضاء الفرنسي لمصلحة المودع ضد بنك سردار الاستثناء الوحيد حتّى اللحظة، من جهة فرضه سداد قيمة الوديعة بتحويل مباشر إلى الخارج.

الظلم بالسويّة عدلٌ بالرعيّة
في الشكل، ارتكز القضاء البريطاني على طبيعة العقود الموقّعة بين المصرف وعميله، بالإضافة إلى قانون النقد والتسليف اللبناني، لإصدار حكم قبول الشيك المصرفي المحلّي كوسيلة لإيفاء قيمة الوديعة، بدل فرض سداد الوديعة "كما أتت". لكن أبعد من جميع هذه التفاصيل التقنيّة، كان من الواضح أن القضاء البريطاني مدرك لطبيعة الأزمة الماليّة الموجودة في لبنان، وهو ما دفعه إلى اعتبار أن فرض سداد قيمة الوديعة لمصلحة مودع معيّن، سيعني الإجحاف بحق سائر المودعين الذين لا يملكون قدرة مقاضاة المصارف في المحاكم الأجنبيّة. بمعنى آخر، إذا كان تهريب الودائع لمصلحة المودعين النافذين مثّل في السابق ظلماً بحق الغالبيّة الساحقة من المودعين في المصارف، فإصدار أحكام تعيد الودائع لمصلحة قلّة أخرى من المودعين من المقيمين في الخارج سيؤدّي إلى النتيجة نفسها.   

بعبارة أوضح: القاعدة المتبعة هنا هي تساوي المودعين بالإجحاف بحقهم، أو العدل في الظلم اللاحق بهم. وهذا الواقع المؤلم للمودع يأتي اليوم في ظل عدم وجود قانون كابيتال كونترول جدّي، ينظّم عمليات السحب والتحويل المصرفي، ويمهّد لرفع القيود عن السحوبات والتحويلات بعد معالجة الخسائر المصرفيّة. كما ينتج عن اقتصار جميع محاولات تمرير الكابيتال كونترول على تشريع القيود الجائرة المفروضة على ودائع عملاء المصارف، بخلاف نظرة صندوق النقد لهذا القانون، بدل أن يشمل الكابيتال كونترول جميع أدوات إدارة السيولة التي يمكن استخدامها للخروج من الأزمة المصرفيّة. وهذا النوع من الجرائم التشريعيّة التي تم ارتكابها بحق المودعين، والتي تقاعست عن تنظيم علاقتهم بالمصارف بشكل قانوني وعادل، هو ما وضعهم اليوم تحت مقصلة هذا النوع من القرارات القضائيّة غير المنصفة بحقهم، بعد أن باتوا تحت رحمة تقييم المحاكم الأجنبيّة لكيفيّة "العدل" في ما بينهم.

سابقة ولكن...
عمليًّا، من المفترض أن يكون الحكم القضائي الحالي سابقة، يمكن أن تؤشّر إلى مسار الدعاوى الأخرى المرفوعة بحق سوسيتيه جنرال واللبناني الفرنسي، خصوصًا إذا ارتكزت المحاكم البريطانيّة إلى القانون ذاته والعقود التي ترعى علاقة المودعين بالمصارف. لكنّ صدور الأحكام لمصلحة المصارف لن يكون مسألة مضمونة خلال العام المقبل، خصوصًا أن المحاكم تأخذ بالاعتبار طبيعة الخدمات المصرفيّة التي قدمها المصرف للمودع، ومكان توقيع العقود، وكيفيّة تحويل أو إيداع قيمة الوديعة في المصرف، بالإضافة إلى مندرجات العقود التي قد تختلف بين المصارف. ولهذا السبب، فلا يوجد ما يضمن عدم وجود مفاجآت في قرارات المحاكم البريطانيّة، التي قد لا تذهب لصالح المصارف كما جرى مع بنك لبنان والمهجر.

لكل هذه الأسباب، لا يوجد ما يدعو المودعين للإفراط بالتفاؤل بمستقبل هذه الدعاوى، كما لا يوجد ما يدعو المصارف للتفاؤل بالوصول إلى النتيجة نفسها التي تمكّن بنك لبنان والمهجر من الوصول إليها. لكن الدعاوى القضائيّة، سواء في لبنان أو المحاكم الأجنبيّة، يمكن أن تكون مجرّد وسيلة قانونيّة للتمرّد على الأمر الواقع، الذي فرضته المصارف ومصرف لبنان والسلطة منذ حصول الانهيار، والذي تمثّل في فرض القيود على السحوبات والتحويلات، من دون أن يتوازى ذلك مع أي رؤية لكيفيّة الخروج من الأزمة المصرفيّة التي ضربت المودعين.

وفي كل الحالات، من الأكيد أن إنصاف جميع المودعين غير ممكن بالقرارات القضائيّة وحدها، خصوصًا بعد أن أكلت الخسائر النسبة الأكبر من الموجودات المصرفيّة، ما يعني أن سداد جميع الودائع "كما أتت" غير ممكن من خلال المحاكم وحدها. فالمعالجة النهائيّة لا تمر إلا بالحل الشامل للأزمة الماليّة، عبر خطة كاملة تكفل استعادة انتظام العمل المصرفي، بعد التعامل مع الخسائر بشكل عملي وعادل. وهو وحده ما يمكن أن يمهّد لسداد قيمة الودائع، وخصوصًا الصغيرة والمتوسّطة الحجم منها.