"الإقصاء المالي": اللبنانيّون يخرجون من النظام المصرفي

علي نور الدين
الثلاثاء   2021/12/14
الخروج من النظام المصرفي، يعني ببساطة الخروج من السوق المعاصرة (Getty)

طوال السنوات التي سبقت حصول الانهيار المصرفي، تغنّت المصارف اللبنانيّة ومصرف لبنان بمفهوم الشمول المالي، وتفاخرت بالسياسات والمنتجات الماليّة التي تحاول تحقيق أهداف هذا المفهوم. والشمول المالي كمصطلح اقتصادي، لا يعني سوى توسيع نطاق المستفيدين من الخدمات والمنتجات الماليّة إلى أقصى حد، ومحاولة دمج أكبر نسبة ممكنة من المجتمع في النظام المصرفي. مع الإشارة إلى أن أهميّة المفهوم تنطلق من أثره على مستوى التنمية الاجتماعيّة، وتسهيل وصول الأفراد إلى أدوات الاقتراض والادخار وتحويل الأموال ووسائل الدفع الحديثة. وهو ما يمكن أن يحسّن حياتهم بشكل عام.

الانهيار والإقصاء المالي
لكن اليوم، وبفعل الانهيار المصرفي الذي حصل منذ عامين وشهرين، وفي ظل استمرار تدهور الأزمة المصرفيّة من دون أي أفق للحل، تتجه البلاد تدريجيًّا إلى ما هو نقيض الشمول المالي تمامًا، أي الإقصاء المالي، بما يعنيه من إخراج شرائح واسعة من المقيمين من النظام المصرفي وعزلهم عن خدماته. وخروج المقيمين من النظام المصرفي اليوم، يتعلّق أولاً بضمور المصارف وعدم قدرتها على تأمين أبسط الخدمات الماليّة المتوقّعة منها، بالإضافة إلى نفور المقيمين من النظام المصرفي وانعدام الثقة بعمليّاته وخدماته.

وفي النتيجة، سيكون لكل هذه التطوّرات أثر مؤلم على مستوى معيشة المقيمين وقدرتهم على تحسين أوضاعهم الاجتماعيّة، ناهيك عن إمكانيّة قيامهم بأبسط العمليّات الماليّة التي يتطلّبها العصر الحديث. كما سيكون لهذه التطوّرات نتائج أخرى على الاقتصاد المحلّي، وقدرته على النهوض في المستقبل، بمعزل عن مآل الأزمة المصرفيّة، خصوصًا مع تكريس آليات عمل اقتصاد النقد الورقي، كبديل عن آليّات الدفع المعمول بها في الاقتصادات المعاصرة.

222 ألف شخص تخلّوا عن بطاقات الدفع
تشير أرقام مصرف لبنان إلى أن عدد بطاقات الدفع المصرفيّة الموجودة في السوق، تراجع لغاية شهر أيلول من هذا العام بنحو 222 ألف بطاقة، مقارنة بالفترة المماثلة تمامًا من العام الماضي. وبعد هذا الانخفاض الضخم، بات عدد البطاقات المصرفيّة المستخدمة محليًّا لا يتجاوز حدود 38% فقط من إجمالي المقيمين، ما يشير إلى أن غالبيّة المقيمين باتت خارج نطاق الاستفادة من وسائل الدفع المصرفيّة. كما تشير أرقام المصرف المركزي أيضًا إلى أن عدد ماكينات الدفع الالكتروني الموجودة في المحال التجاريّة (أي الـPOS) ، والتي تتيح استخدام البطاقات لسداد ثمن المشتريات، تراجعت بحدود 4,444 ماكينة خلال الفترة نفسها، ما يعني أن المحال التجاريّة نفسها تخلّصت من وسائل الدفع المصرفيّة. مع الإشارة إلى أن عدد ماكينات السحب النقدي في المصارف تراجع كذلك بنحو 208 ماكينة خلال هذه الفترة.

في الواقع، تمثّل هذه الأرقام أقصى تراجع في نسبة المستفيدين من خدمات البطاقات المصرفيّة منذ حصول الانهيار المصرفي في أواخر العام 2019. وهذا التطوّر مرتبط بجملة من الأسباب، ومنها القيود القاسية على عمليّات السحب النقدي بالليرة اللبنانيّة، التي بدأت المصارف بالتشدّد في تطبيقها منذ أكثر سنة، والتي دفعت شرائح واسعة من اللبنانيين إلى التخلّص من خدمات توطين الراتب في المصارف، وتفادي الاحتفاظ بأرصدة مصرفيّة بالليرة اللبنانيّة. وبسبب القيود على السحوبات أيضًا، أحجمت فئات واسعة من القطاعات التجاريّة عن قبول الدفعات بالبطاقات المصرفيّة، ما جعل هذه البطاقات غير مفيدة كوسيلة دفع في معظم المحال التجاريّة.

عمليًّا، يرتبط التراجع في عدد البطاقات المصرفيّة أيضًا بإحجام المصارف عن إصدار بطاقات الائتمان (أي الـCredit Card)، بفعل أزمة السيولة التي يمر بها القطاع المصرفي، والتي لا تسمح فعليًّا بمنح أي قروض، ولو على شكل بطاقات محدودة الرصيد. ولهذا السبب بالتحديد، تشير إحصاءات المصرف المركزي إلى أن أكثر من نصف هذه البطاقات خرجت من الخدمة منذ حصول الانهيار المصرفي.

الشمول المالي: عودة إلى ما قبل 2005
يعتمد صندوق النقد على إحصاءات ترتبط بعدد الحسابات المصرفيّة قياسًا بعدد البالغين الموجودين في بلد ما، لاحتساب درجة الشمول المالي واستفادة المقيمين من خدمات القطاع المصرفي. وحسب أرقام الصندوق، تراجع مستوى الشمول المالي في لبنان خلال السنة الماضية، ليعود إلى المستويات التي كان عليها قبل سنة 2005. بمعنى آخر، خسر لبنان ما حققه طوال 16 سنة من توسّع في نطاق الخدمات المصرفيّة، ودخول مقيمين جدد إلى مصاف أصحاب الحسابات المصرفيّة. مع الإشارة إلى أن مستوى الشمول المالي اليوم بات يقل بنحو 25% مقارنة بأعلى مستوياته سنة 2009، ما يعني أن نحو ربع المستفيدين من الخدمات المصرفيّة في ذلك الوقت خرجوا من النظام المصرفي بأسره.

هذا التراجع يعود في جزء منه إلى نوعيّة الإجراءات التي اتخذتها المصارف منذ حصول الأزمة، والتي قامت على الاكتفاء بتأمين السحوبات النقديّة من حسابات ما قبل تشرين الأول 2019، مقابل الحد من قدرة هذه الحسابات على تلقي الشيكات والتحويلات الداخلية، لتخفيف ضغط السحوبات النقديّة منها. ومع تراجع نشاط توطين الرواتب، باتت الوظيفة الوحيدة لهذه الحسابات تأمين السحوبات الشهريّة بانتظار إقفالها بعد ترصيدها. لا بل ساهمت المصارف التجاريّة نفسها في تكريس مبدأ الإقصاء المالي، من خلال تشجيع العملاء على ترصيد وإقفال الحسابات، عبر رفع العمولات المصرفيّة، بهدف تقليص عدد الحسابات القائمة التي تستفيد من سقوف سحب شهريّة بالليرة اللبنانيّة.

الخروج من الأسواق المعاصرة
الخروج من النظام المصرفي، يعني ببساطة الخروج من السوق المعاصرة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. ببساطة، لن تتمتّع الشرائح التي تم إقصاؤها من المصارف بالقدرة على الاستفادة من وسائل الدفعة الحديثة، سواء في الأسواق المحليّة أو عبر الانترنت، أو حتّى التحويلات والشيكات بالنسبة إلى المؤسسات الصغيرة والمتوسّطة الحجم. وهذه الشرائح، ستعاني في المستقبل من عدم قدرتها على الحصول على القروض المصرفيّة، حتّى في حال انتظام القطاع تدريجيًّا، بغياب سجل معاملات مصرفيّة يثبت تاريخها المالي وحجم إيرادتها. أمّا أهم ما في الموضوع، فهو تكريس معاملات النقد الورقي كبديل من وسائل الدفع المصرفيّة، وخصوصًا في المعاملات التجاريّة، ما سيفتح الباب أمام تحوّل السوق إلى جنّة من جنّات تبييض الأموال، وهو ما يعرّض علاقة البلاد بالنظام المالي العالمي إلى اهتزازات لا تُحمد عقباها.

باختصار، من المتوقّع أن يترك الإقصاء المالي الذي يحصل اليوم آثاراً استراتيجيّة تتعدّى تداعيات الانهيار المالي الحاصل اليوم، وبالأخص من جهة علاقة المجتمع اللبناني بالخدمات المصرفيّة ونمط تعاملاتهم الماليّة. وكلما طال أمد الأزمة المصرفيّة على النحو الذي يحصل اليوم، من المتوقّع أن ترتفع نسبة المقصيين من النظام المالي، وأن تعود البلاد عقوداً إلى الوراء في كل ما يخص تطوّر وسائط التداولات الماليّة والادخار والتسليف.