الإنقاذ العصيّ من قبضة الإمتيازات

عصام الجردي
الإثنين   2020/05/04
تمكنت الأوليغارشيا من صوغ تحالف فريد من نوعه (نذير حلواني)

"يوم تاريخي" الذي أقرت فيه الحكومة برنامجها الإصلاحي كما وصفه رئيس الجمهورية ميشال عون. لا نفهم ما قصده الرئيس. على حدّ علمنا، سيحفظ التاريخ أن 7 آذار 2020 كان هو اليوم التاريخي. ففيه أعلنت الحكومة لبنان دولة مُعسرة متوقفة عن الدفع. ومعه مصرف لبنان والمصارف وانهار النقد. هذا غير مسبوق وتاريخي بامتياز. وحصل في عهد ميشال عون رئيسًا لجمهورية لبنان وحسّان دياب رئيسّا للحكومة. في برنامج الحكومة الإصلاحي كما صدر عن مجلس الوزراء جوانب عادلة كثيرة لتوزيع أعباء الأزمة.

هذه ليست حكومة انقاذ لبنان. لو فعلت لصحّ وصفها حكومة تاريخية. فصانع الخروج من الأزمة بطلٌ. ويوم الخروج تاريخي. وليس فخارًا يوم سقوط لبنان مرة أولى في التاريخ.

أي حكومة للانقاذ إذن؟ لا توجد. ولا يمكن استيلادها من هذه المنظومة لأسباب تتعلق بالكيمياء السياسية وبقانون الجاذبية الذي عاندناه عقودًا، وبقوانين الاقتصاد والاجتماع. ونسأل، كيف يمكن لنظام اقتصادي مالي ونقدي أن ينهار بالكامل، دولةً ومصرفًا مركزيًا ومصارف، ويبقى النظام السياسي قائمًا؟ لذلك، سيكون أيضًا "يومًا تاريخيًا" غير مسبوق على مرّ العصور، لو أوكلنا إلى هذا النظام نفسه مهمّة الإنقاذ ممّا صنع.

من هدم النظام؟
كنا نهجس سنوات في الخوف من السقوط مرّة واحدة. ما كان شيء ماشيًا في انتظام. سقطنا الآن. راقبوا كيف تحوّل الكومبارس السياسي والمالي والإعلامي نحو المقولة السخيفة. "تغيير نظام لبنان الاقتصادي. وتغيير النظام الليبرالي الحرّ. وتغيير وجه لبنان". لماذا هذه الأراجيف تساق تزويرًا وتضليلًا. من هدم النظام الاقتصادي ويريد تغيير وجه لبنان هم سدنة النظام أنفسهم من أوليغارشيا السلطة السياسية والمال. هذا التحالف موجود في دول العالم وحتى الصناعية الكبيرة. إنما برعاية قوانين تُستن له أحيانًا لمصالح ومنافع سياسية وتجارية. في لبنان تعطّل كل شيء. الدستور ونزولًا إلى القوانين وسلطة القضاء والعدالة. ما كان مطلوبًا قبل الانهيار من تنازلات عن مكاسب من الزبائنية السياسية لم تعد تكفي الآن. الخسائر المعلنة نحو 85 مليار دولار أميركي عرضة لتكون أعلى. وتحتاج إلى من يغطيها ويزيد في عملية هيكلة مصرف لبنان والمصارف ودين الدولة. ويفترض أن تكون بعد الهيكلة في سياق تحريك الاقتصاد الكاسد المتوقف عن العمل.

ولفرط تلازم الأطراف الثلاثة المتورطة في تدمير النظام  الاقتصادي، المصارف والدولة ومصرف لبنان، يجعل من الصعب توزيع التورط على سبيل التراتب. هل نقول المصارف مثلاً لأن المودع أودعها ماله ولم يودعه الدولة؟  والمصارف قامت بالمهمّة غير النبيلة وسلّفت عميلًا رديئًا. مصرف لبنان، هو الشرطي، والناظم، والمراقب، والمحاسب، والقاضي المطلق الصلاحية من خلال المحكمة المصرفية العليا من غرفة واحدة يرأسها حاكم المصرف. لا تقبل أحكامها لا الاستئناف ولا التمييز. تقفل المصرف وتشطبه من لائحة المصارف أثرًا بعد عين. "تُحيي وتُميت"! أم تُرى نقول الدولة بمعنى السلطة الزبائنية؟ هؤلاء ومعهم طبعًا بقية المراكز المالية في النظام، سدنة النظام الأوليغارشي. هياكله الإدارية والرقابية والقضائية منتقاة بعناية فائقة. ربما يختصرها حاكم مصرف لبنان بصلاحيات مطلقة لديكتاتور في نظام شمولي.

الثلاثة استولدوا الانهيار. الطريف أن أحدًا لم يعتذر إلى المواطن. من يقرأ بيان جمعية المصارف يعتقد إنه صادر عن جمعية الحبل بلا دنس. هناك معلومات مفادها أن سحوبات نقدًا من الدولار الأميركي تتم حتى الساعة من مصارف معينة لمصلحة سياسيين ونافذين. استوقفني بيان الجمعية إذ ذكر "أن القطاع المصرفي قدّم التمويل اللازم للقطاع العام الذي قرّر تخصيصه وانفاقه من دون أن يكون للمصارف أيّ دور. ويصوّر هذا العرض مقترضًا يتّهم المقرض بأنه مسؤول عن فشله. علاوةً على ذلك، فإن وجود نهج عقابي بحقّ القطاع المصرفي يعني في الواقع نهجًا عقابيًا في حقّ المودع. الكثير مما ورد في الخطة الحكومية يمسّ بالملكية الفردية التي ينصّ الدستور اللبناني صراحةً على حمايتها والتي هي من الركائز الأساسية للمجتمع اللبناني". نود تذكير جمعية المصارف بأمرين. الأول، أن المودع استودعكم المال أيضًا ويلقى العقاب الآن أبشع ممّا تلقونه من الدولة. الثاني، الملكية الفردية التي نصّ الدستور على حمايتها أساسها من يملك. الفرد أساس الجماعة. المودعون لهم حقوق الملكية. إنهم دائنون ممتازون على حملة الأسهم المصرفية العادية والتفضيلية.

تحالف جديد
تمكنت الأوليغارشيا من صوغ تحالف فريد من نوعه ضد الدولة لتحميلها الخسائر. طبيعي أن تكون المصارف في هذا التحالف. لكن غير طبيعي أن يضم قوى عريضة من النظام السياسي خصوصًا في مجلس النواب ومن داخل الحكومة أيضًا. والهدف قطع الطريق على استعادة الأموال المنهوبة بعد أن بات معظمها خارج لبنان. والمصارف لم تستوعب التضحية بنحو 20 مليار دولار أميركي تمثل رساميلها في إعادة الهيكلة. لا يقف الأمر عند هذا الحدّ في برنامج الحكومة. هناك الفوائد العالية والأرباح التي جنيت من الهندسات المالية. يشمل ذلك القوى السياسية التي نالت حصتها من الهندسة. وقد يصل الأمر إلى كيانات تجارية وعقارية تابعة للمصارف. نميل إلى الاعتقاد في أن برنامج الإصلاح الحكومي لن يعبر مجلس النواب كما هو. الأمر يتجاوز المصارف إلى كيانات للدولة يسيطر عليها سياسيون ومتهمة بالفساد. لذلك نقول بعقم الاصلاح يأتي من النظام السياسي.

قبل نهاية 2019 كان خيار صندوق النقد الدولي ممرًا إلزاميًا للبنان. بعد التوقف عن الدفع بات الصندوق حتميًا لتخفيف التكلفة وإقناع الدائنين الدوليين بمفاوضات غير جائرة. "نحتاج إلى المال فورًا". قلنا ذلك في صيف 2019. برنامج الحكومة يأمل 10 مليارات دولار أميركي من صندوق النقد على سنوات خمس. لا يكفي ذلك من خارج سياق مرسوم لاعادة الهيكلة المالية والمصرفية. لو اقنع برنامج الحكومة الصندوق، وساعد الأخير في الافراج عن تعهدات سيدر وفقًا لروزنامة اصلاح داخلية يمكن التقاط الأنفاس قليلًا. كل ذلك ليس كافيًا. الموازنة التكميلية المفترض أن يقرّها مجلس الوزراء في غضون شهرين حدًا أقصى كما يلحظ البرنامج الحكومي، تعني مزيدًا من الدين لم ينفتح مساره مستدامًا بعد.

هناك إشارات سياسية لا تطمئن. مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شنكر كان له تصريح لافت من دور "حزب الله" في الحكومة. قرار الحكومة الألمانية باعتبار الحزب ارهابيًا بجناحه السياسي أيضًا يستوقف كثيرًا. خصوصًا أن ألمانيا على علاقة خاصة بالحزب وايران في شؤون كثيرة. ودورها كبير في الاتحاد الأوروبي كي تقوم فرنسا والنمسا بخطوات مماثلة.