سلامة للقضاء "كلّن يعني كلّن"

عصام الجردي
السبت   2020/04/25
لو مثل سلامة أمام قضاء مجلس القضاء الأعلى وليس قضاء السلطة لأدهش العالم (الأرشيف، ريشار سمور)

"خِلصت".. لا تقوم قائمة للبلد إلّا برحيل المنظومة السياسية بأكملها. خارج ذلك لغطٌ ورياء والانتقال من مرحلة الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي والاجتماعي، إلى الفوضى والتشظي ومرحلة الخطر الكبير. درءًا للتضليل كل ما سيلي تحت هذا السقف.

كنا لنقول بعد دلاء رئيس الحكومة حسّان دياب عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عقِب جلسة مجلس الوزراء الجمعة، إمّا يُقال سلامة وإمّا تستقيل الحكومة. ولا مساحة للتعايش معًا. لكن الحقيقة التي ستتظهّر أكثر في الأيام المقبلة إن قرار تعيين البديل من سلامة ومعه نواب الحاكم الأربعة ورئيس لجنة الرقابة على المصارف والأعضاء بات أكثر صعوبة، وطريق الإنقاذ أكثر تعقيدًا.


ما أدلى به دياب خطر لا يقوله رئيس حكومة في أكثر البلدان تخلفًا ويعود إلى مكتبه لممارسة أعماله. "ثمة معضلة تتمثّل بغموض مريب في أداء حاكم مصرف لبنان إزاء تدهور سعر الليرة. يبدو دور مصرف لبنان إمّا عاجزًا أو معطّلًا بقرار، أو محرّضًا على التدهور الدراماتيكي في سعر صرف العملة الوطنية". إتّهم دياب سلامة أيضًا بكتم معلومات، وبفجوات كبرى في السياسة النقدية والستراتيجيات والصراحة والوضوح  والحسابات وغير ذلك. الاتهامات تتجاوز بكثير "الإخلال بواجبات الوظيفة" المنصوص عنها في المادة 19 من قانون والتسليف التي تتناول إقالة حاكم مصرف لبنان. وتصل إلى حدّ التآمر. ما تردد أن الحكومة أوكلت إلى شركات دولية لتدقيق الحسابات KPMG وثانية للتحقيق الجنائي Kroll وثالثة للإدارة المالية Oliver Wyman لن يؤدي إلى نتيجة طالما قضية مصرف لبنان والانهيار والمصارف مسقوفة بإرادات سياسية.

بندقية حلفائه
إذا كان رئيس الحكومة لا يدرك أبعاد ما يقوله فلدينا مشكلة حقيقية في الحكومة وفي مصرف لبنان. والبلد مكشوف على إعسار، ومتوقف عن الدفع وسعر الصرف بلا سقوف. هذا الكلام لا يصدر عن رئيس حكومة لرميه لدى الرأي العام، بينما لا يقوم هو بصلب مسؤوليات مجلس الوزراء لسد الشغور في حاكمية مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف. أم "التركة" هي المسؤولة؟ واضح أن دياب لا يؤتي موقفًا كهذا بلا دعم رئيس الجمهورية ميشال عون و"حزب الله". أو حتى بطلب مباشر من الفريقين أو أحدهما. لكن تجاوز سلامة اليوبيل الفضي في مصرف لبنان كان نتيجة قبول رئيس الجمهورية إعادة تعيينه. والأخير يتحمّل المسؤولية مع دياب حيال التداعيات المحتملة لموقف الثاني. خصوصًا على صعيد سعر صرف الليرة والأسعار وموجة القلق في البلد. "حزب الله" المرتاح إلى وضع "الكاش الطازج" يخطىء إذ يعتقد أن أي حاكم لمصرف لبنان يمكنه تجاهل العقوبات الأميركية على الحزب. الأمر ليس واردًا لدى المصارف في حال من الأحوال حتى تلك المحسوبة على مجتمع الحزب.

لكن كيف يرضى سلامة الاستمرار في عمله وسط تلك الاتهامات الفادحة وكأن شيئًا لم يكن؟ قد يكون مردّ ذلك إلى أكثر من اعتبار.

أولًا: سواءٌ استقال سلامة أو أُقيل، فاتهامات بهذا الحجم من رئيس حكومة لن تمر من دون ملف قضائي. ويبدو أن سلامة لا يريد الوصول إلى هذه المرحلة ولا يملك شجاعة التحدي في هذا المجال.

ثانيًا: سلامة لا يملك على الأرجح قرار استقالته. لأن الملف الذي سيفتح بعد ذلك سيطال المصارف وعلاقاتها بسياسات مصرف لبنان والهندسات المالية والفوائد وتسليف الدولة. وربما وصل إلى ملفات داخلية في المصرف على علاقة بقروض وتبييض أموال وخلافها. كل ذلك سيبلغ حُكمًا شريحة واسعة من الزعماء السياسيين أساسًا، ووزراء بالتجزئة في الحكومات والمجالس النيابية وأصحاب نفوذ، ومؤسسات إعلامية وإعلاميين ومستشارين ورهط كبير في  قطاعات الدولة وقطاعات اجتماعية مختلفة. هذه الكتلة الواسعة تؤمن حماية لسلامة كي تحمي نفسها أيضًا.

ثالثًا: سلامة بصفته رئيسًا للهيئة المصرفية العليا وهيئة مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، بالإضافة إلى مسؤولياته الأخرى، مطّلع على ملف التحويلات المالية إلى الخارج بالأسماء والمبالغ. الشركات الأجنبية الثلاث قادرة ضمن اختصاص كل منها على توفير ملف للحكومة عن هذه القضية الخطرة، التي سرّعت الانهيار وجفاف العملات الأجنبية وحقوق المودعين في المصارف. كتم المعلومات عن مجلس الوزراء لا دافع له سوى حماية أصحاب الودائع المليونية. وهم من كل الاتجاهات السياسية وقادرون على حماية سلامة.

رابعًا: كما كان متوقعًا، يبدو أن الفريق المالي والسياسي والإعلامي المؤيد سلامة قرّر مع "الخبراء الستراتيجيين وبروفسورية منطقة الـ MENA" المواجهة ليس دفاعًا عن سلامة فحسب، بمقدار حماية نفسه أيضًا معنويًا وسياسيًا حدًا أدنى بين جمهوره في ظروف أزمة مالية ونقدية واجتماعية غير مسبوقة.


إذا كان مسار السلطة السياسية الزبائني الذي أدّى إلى الانهيار المالي والنقدي قد وحّد تلك السلطة على زبائنيتها، وأرجأ الكثير من التناقضات بينها عبر تسويات سياسية بخلفيات نفعية، فمن عدم اليقين الاعتقاد في قدرة الأوليغارشيا على التماسك في مرحلة توزيع أعباء الانهيار الذي بدأ يضرب بنية المجتمع اللبناني رغم توحدها في مواجهة الثورة ومع الحكومة أيضًا.

دياب طلب إلى كل من حوّل عملات أجنبية فوق 50 ألف دولار أميركي إلى الخارج بعد 17 تشرين الأول 2019، إعادتها تحت طائلة اتهام القائمين بها بالاثراء غير المشروع. لعِلم رئيس الحكومة، هناك لائحة من 29 مصرفًا حوّلت أكثر من 1.3 مليار دولار أميركي بين 18 تشرين الأول 2019 و13 كانون الأول من السنة نفسها. اللائحة موجودة في مصرف لبنان والهيئة المصرفية ولجنة الرقابة. التحويلات المشتبهة الكبيرة كانت قبل التاريخ الذي طلبه دياب، وتعود إلى 2018 وكل 2019. من قام بها كان عِلم بالآتي. وفي موقع صناعة القرار لاسيما في المصارف التي حوّلت لمساهميها ولكبار مديريها ولسياسيين.

"القضاء ثقيل الهِمّة"
"هذه الحكومة ليست محكمة ثورة، والتغيير يحصل فعليًا من داخل آليات النظام القائم. والمحاسبة قائمة تحت سقف القانون. والمرتكبون سيدخلون إلى السجن حتمًا بهمّة القضاء اللبناني" قال رئيس الحكومة. "همة" القضاء! كم أنهكت هذه المفردة دياب قبل العثور عليها. أي قضاء هذا تردّ وزيرة العدل "الاختصاصيّة المستقلّة" في حكومتك تشكيلات مجلسه الأعلى؟ وينام المرسوم عند رئيس الجمهورية. وتريدون استعادة الأموال المنهوبة وهيبة الدولة وثقة الناس بها.. لو مثل سلامة أمام قضاء مجلس القضاء الأعلى وليس قضاء السلطة لأدهش العالم. سيردّد مع المتظاهرين ضده "كلّن يعني كلّن". سيكون المشهد رائعًا على ما فيه من بؤس وهوان.