لبنان بعد التعثّر: صندوق النقد آتٍ لا محالة

علي نور الدين
الإثنين   2020/03/09
موقف حزب الله الرافض لـ"هيمنة الصندوق"، يبدو أقرب إلى "غسل اليدين" (الأرشيف، علي علّوش)

بعد إعلان رئيس الحكومة اللبنانيّة التخلّف عن دفع سندات اليوروبوند المستحقّة هذا الشهر، أصبح لبنان رسميّاً في مصاف الدول المتعثّرة في سداد ديونها. فيما أصبح إعلان ذلك من قبل وكالات التصنيف الائتمانيّة مسألة وقت فقط. وبذلك، يُفتح الباب أمام أسئلة واستحقاقات خطيرة، من البحث عن مصادر لتمويل استيراد السلع الحيويّة، إلى إيجاد ضمانات كافية للدائنين الأجانب من قبل جهات دوليّة، بخصوص مستقبل الوضع الائتماني للدولة، قبل الدخول في أي تفاوض لإعادة هيكلة الدين.

وبغياب أي خطط بديلة لدى الحكومة اللبنانيّة، تقود كل الدروب إلى مكان واحد: صندوق النقد الدولي وبرامجه وشروطه المؤلمة. أمّا موقف حزب الله الرافض لـ"هيمنة الصندوق"، فيبدو أقرب إلى "غسل اليدين" إعلاميّاً من الآثار المتوقّعة لشروط الصندوق، ورفعاً للسقف السياسي لتلافي أي شروط تمس نفوذه الداخلي، فيما يدرك الحزب جيّداً أنّ جميع أقطاب السلطة – بمن فيهم الحزب- سيتجهون نحو الصندوق، وكل شروطه الموجعة على المستويين الاجتماعي والاقتصادي.

تحديات التمويل
السؤال الأوّل المطروح في المرحلة المقبلة، سيتعلّق تحديداً بسبل توفير السيولة بالعملة الصعبة. وتحديداً لاستيراد الدواء والمحروقات والغذاء، وغيرها من السلع الحيويّة التي تمس معيشة المواطنين. وتصنيف الدولة اللبنانيّة كدولة متعثّرة، سيعني ببساطة فقدانها القدرة على الوصول إلى مصادر الاستدانة في الأسواق الدوليّة، سواء من خلال البحث عن مكتتبين في إصدارات جديدة لسندات الخزينة، أو مشترين لشهادات الإيداع لدى مصرف لبنان.

ثمّة ما هو أخطر هنا. فضرب التصنيف الائتماني للدولة اللبنانيّة سيؤدّي تلقائيّاً إلى ضرب التصنيف الإئتماني للمصارف اللبنانيّة أيضاً، بالنظر إلى إرتباط معظم موجوداتها بأدوات الدين السيادي على شكل توظيفات في سندات الدين ومصرف لبنان. وبالتالي، سيُفرض على المصارف إمّا تقليص أو سداد تسهيلاتها لدى المصارف المراسلة، أو زيادة الضمانات المودعة مقابل هذه التسهيلات. وفي الحالتين، ستكون المصارف أمام ضغوط تمويليّة كبيرة، ستؤثّر على ما تبقّى من سيولة بحوزتها بالعملات الصعبة، مع العلم أن المصارف تعاني أساساً من شح التحويلات الخارجيّة منذ تشرين الأوّل الماضي.

هذا النوع من المشاكل سيضع الدولة تلقائيّاً أمام مخاطر العجز عن تمويل الاستيراد، خصوصاً أنّ الدولة تأخرّت سنوات في إعلان تعثّرها الصريح، وهو ما أدّى طوال هذه الفترة إلى استنزاف عشرات المليارات من موجودات لبنان بالعملات الصعبة. وحسب جميع المعطيات، لا يبدو أنّ هناك أي خطّة بديلة لدى الدولة اللبنانيّة لمعالجة هذه المسألة، سوى البحث عن رزم القروض القادرة على معالجة أزمة عجز ميزان المدفوعات، والتي يُعد صندوق النقد الدولي المرشّح التقليدي لها.

في الواقع، كان لبنان يراهن قبل تشرين الأوّل الماضي على مصادر مختلفة، لتوفير هذا النوع من رزم القروض، كتلك التي جرى عرضها في سياق مؤتمر سيدر. لكنّ كما هو متوقّع في حالات الإفلاس والتعثّر، باتت الغالبيّة الساحقة من الجهات الدوليّة المرشّحة لهذا الدور تربط تدخّلها ودعمها المالي بوجود برنامج واضح من صندوق النقد الدولي، يضمن استعادة الدولة لملاءتها الائتمانيّة خلال السنوات المقبلة، ويكفل قدرتها على سداد القروض لاحقاً. وهذا بالضبط ما أعلنته فرنسا، الدولة الغربيّة الأكثر حماسة للتدخّل والمساعدة ماليّاً، حين أبلغت السلطات اللبنانيّة ضرورة ربط أي قروض منها أو من الاتحاد الأوروبي ببرنامج متفق عليه مع صندوق النقد.

الصندوق كضمانة للدائنين
باشر حملة سندات اليوروبوند خلال الأيام الماضية التواصل فيما بينهم، لتشكيل مجموعة تنسيق قبل الدخول في مفاوضات جماعيّة مع الدولة اللبنانيّة، من أجل إعادة هيكلة الدين العام. وهنا، سيكون أمام الدائنين الأجانب خيارات عدّة. أحدها سيكون الالتزام بمسار التفاوض في إطار مجموعة التنسيق هذه، والتي تشمل المصارف المحليّة، والتريّث قبل الدخول في أي إجراءات قانونيّة موازنيّة. في المقابل، قد يرى الدائنون الأجانب أنّه من الأنسب المباشرة في مقاضاة الدولة اللبنانيّة أمام محاكم الولايات المتحدة، بالتوازي مع المفاوضات القائمة من خلال مجموعة التنسيق، وذلك لزيادة الضغط على الدولة.

ما سيحدد شراسة الدائنين الأجانب في هذا المسار، واندفاعهم للإجراءات القضائيّة، سيكون قدرة الدولة على توفير ضمانات، تكفل لهم قدرتها على استعادة قدراتها التمويليّة خلال السنوات المقبلة، بالأخص في ظل فقدان جميع الأطراف الثقة في الدولة اللبنانيّة وإمكانيّة وجود خطط للخروج من مأزقها. وبطبيعة الحال، سيكون صندوق النقد – مجدداً- المرشّح التقليدي للعب هذا الدور، خصوصاً بفضل تشابه الأولويّات بينه وبين الدائنين، من ناحية التركيز على استعادة الملاءة الائتمانيّة، ولو على حساب الظروف المعيشيّة والاقتصاديّة لعموم اللبنانيّين. وفي الواقع، كان من الممكن تفادي الوقوع في هذه الإشكاليّة، لو امتلكت الدولة منذ سنوات خططاً كفيلة بإعادة النظر بالمنظومة الماليّة القائمة. لكن غياب هذه الخطط، وحاجة الدولة إلى سنوات عديدة للعمل على تطبيقها إذا وجدت، يضع الحكومة اليوم في مسار لا يؤدّي إلا إلى خطط الصندوق التقشّفيّة والمؤلمة.

ماذا يريد حزب الله؟
في الفترة الماضية، رفع حزب الله سقف الخطاب في وجه صندوق النقد، معلناً تقبّله لمشورته التقنيّة، ورافضاً هيمنته وفرض شروطه على لبنان. لكنّ المشورة التقنيّة، التي اندفعت الحكومة وضمنها وزرائه للتعاون معها، ليست - وفقاً لآليّات عمل الصندوق نفسه - سوى بداية مسار سينتج خطّة مع الدولة اللبنانيّة للخروج من الانهيار الحاصل. والخطّة التي ستنتج عن هذه المشورة، لن تكون سوى الشروط أو البرنامج الذي سيفرضه الصندوق لاحقاً، عند توفير الدعم المالي.

وهكذا، ما يرفضه الحزب من شروط وإملاءات لصندوق النقد في التصريحات الإعلاميّة، ليس سوى التدخّل الذي بدأ بالحصول ضمن إطار المشورة التقنيّة، بمباركة وزراء الحزب أنفسهم. وبغياب أي بدائل تعدّها الحكومة اليوم، ستكون هذه الشروط مقوّمات الهيمنة التي يقول أنّه يرفضها. مع العلم أن توجّهات وشروط الصندوق في المجال الاقتصادي معروفة، وتنطلق من الخصخصة وزيادة الضرائب غير المباشرة، وصولاً إلى التقشّف وتقليص شبكات الحماية الاجتماعية وتحرير سعر صرف العملات. وهذه الأمور كلّها كانت من ضمن الأسئلة التي طرحها وفد الصندوق في جولاته السابقة.

في الواقع، تبدو تصريحات الحزب في هذا المجال أقرب إلى رفع السقف سياسياً، لرفض أي ربط بين قروض وبرامج صندوق النقد من جهة، والشروط السياسيّة التي قد تنال من نفوذه الداخلي من جهة أخرى. وإذا إستطاع الحزب تحييد هذه المسألة خلال الأشهر المقبلة، فلن تواجه شروط وإملاءات الصندوق الاقتصاديّة أي مواجهة فعليّة، خصوصاً أن الحكومة وجميع حلفاء الحزب باتوا يسلمّون بفكرة الانخراط ضمن برنامج واضح مع صندوق النقد.

هذا ما يريده الصندوق!
لن يكون من الصعب أن يتلمّس اللبنانيون أولويات الصندوق ونظرته إلى الحل في لبنان، خصوصاً أنّها باتت واضحة من تقارير البعثة الرابعة السابقة، والتي صدر آخرها قبيل دخول لبنان في مرحلة الانهيار في تشرين الأوّل الماضي. فالتقرير ركّز في ذلك الوقت على ضرورة توفير زيادات سريعة في إيرادات الدولة، من خلال ضريبة على المحروقات، وزيادة الضريبة على القيمة المضافة، بالإضافة إلى إلغاء الاستثناءات منها. ومن الأمور التي تكرّرت في جميع التقارير، مسألة رفع تعرفة الكهرباء وإلغاء الدعم عنها، والتلميح بشكل مستمر إلى سياسة تثبيت سعر الصرف التي ينتهجها مصرف لبنان.

في الخلاصة، كل هذه الشروط توحي بظروف مناسبة لانفجار كبير على المستوى الشعبي. فالشارع اللبناني منذ 17 تشرين الأوّل بات صعب المراس، ومن البديهي أن تؤدّي هذه الخطوات إلى ردود فعل يصعب استيعابها في الشارع. لكنّ خيارات السلطة في هذه الظروف باتت محدودة، خصوصاً أنّها لم تتجه إلى خيارات بديلة يمكن أن تغني عن صندوق. كما لا يبدو أنّها بوارد الاتجاه إلى هذا النوع من الخطوات في الوقت الراهن. فصندوق النقد كفيل بمد النظامين المالي والسياسي بجرعات الدعم المطلوبة لإبقائهما على قيد الحياة. وأي تفكير بخيارات أخرى غير وارد لدى الأطراف النافذة في الدولة. وهكذا، على لبنان أن يستعد إلى مواجهة كبرى بين من يريد إنعاش النظام ولو على حساب معيشة المواطنين، ومن يرفض هذه المحاولات.