دينٌ سيادي لـ"مكشوف السيادة"

عصام الجردي
الجمعة   2020/03/13
الكورونا طبقي أيضًا ومتحيز ضد الفقراء ومتوسطي الدخول (Getty)

تتنظر الحكومة ردّ صندوقي أشمور والدائنين الخارجيين على قرارها تعليق سداد استحقاق آذار، المتوقّع ألّا يكون "وديّا". تبدو "حكومة حسّان دياب الاختصاصية" في مطبّ الحكومة غير الاستقلالية. وقد كان المطلب الشعبي حكومة اختصاصيين ومستقلين. موقف "حزب الله" الرافض برنامج قروض مشروط من صندوق النقد الدولي لأسباب سياسية، كي لا يقع لبنان تحت ما يصفه "الوصاية الدولية"، وضع الحكومة في قيد مستحكم استحكام الانهيار العميق الذي نحن فيه. كل ابتكارات الحكومة الجاري العمل عليها لالتقاط الأنفس، سواءٌ مع الدائنين الخارجيين، أم في وجه المهمّات المعقّدة لإعادة هيكلة الدين الداخلي على مستوى الدولة ومصرف لبنان، تستحيل من دون عنصرين اثنين. قروض ميسّرة ليست متوفرة إلّا من صندوق النقد الدولي. والحماية ما أمكن في مرحلة إعادة هيكلة الدين الخارجي من ضباع الصناديق الاستثمارية التي تحمل الدين الخارجي. العنصر الثاني أيضًا لا يتوفر سوى من الصندوق. لأن طلب إعادة هيكلة الدين الخارجي يعني طلب التوافق عليه مع الدائنين. وهؤلاء يريدون ضمانة لأي هيكلة، طالما كانت حاضرة في دول واجهت إعسارًا وتوقفت عن الدفع.

"حزب الله" برفضه صندوق النقد الدولي ووصايته، يرى نفسه في مأزق موقفه وليس الحكومة فحسب. لم يفتح صندوقه. ولم يرشد الحكومة إلى صناديق أخرى لتُفتح. لا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ. فكل الصناديق العربية التي فُتحت للبنان في ساعات ضيقه وحروبه الداخلية، وتلك الناجمة عن العدوان الصهيوني وكان آخرها في تموز 2006 أُغلقت في وجهه الآن. وتحمّل الدولُ العربية والخليجية خصوصًا الحزبَ، ومعها غالبية من اللبنانيين نحسبها كبيرة جدًا المسؤولية، على خلفية عدائه لتلك الدول، وانخراطه في مشروع طهران الإقليمي. على حساب أي اعتبار آخر.

ديننا في أسر الوصاية
لو محّصنا قليلًا في شأن الدين الخارجي اللبناني، لوجدنا إنه دين سيادي لبناني بذاته. وعقدٌ سيادي مع جهات خارجية. الإخلال بسداده هو من ينقل البلد المدين إلى مرحلة الإنكشاف السيادي. ونعرف أن أي نوع من الدين المُعسر حتى ولو كان داخليًا، يضع المدين تحت وصاية الدائن. ينفّذ عليه ويحجز. ويصادر ويبيع في المزاد العلني. لبنان الآن في حاجة إلى الخروج من الوصاية السيادية الخارجية وليس ذاهبًا إليها كما يقول "حزب الله". هذا هو التحدّي لمواجهته الآن من كل القوى السياسية وفي مقدمها "حزب الله". ولن نتمكّن من هذه المهمّة إلّا بإعادة هيكلة الدولة الهشّة لاستعادة سيادتها وسلطة الدستور والقوانين، وإعادة بناء اقتصاد مستدام وعدالة اجتماعية غير منقوصة.

نعود إلى الحكومة. كنا اعتقدنا أنها منهمكة بعد قسط طويل من الصمت، بخطّتها الاقتصادية الشاملة قبل أن تحضر بعثة صندوق النقد الدولي إلى بيروت. لم تفعل. تقول إنها في صدد الخطّة الآن. لكن حوار الطرشان مستمرّ. بعد "نسدّد أم لا نسدّد"، من حقّ الشعب أن يعرف بلسان الحكومة ماذا هي خطتها الاقتصادية. ما هي نتائج بعثة الصندوق التقنية طالما لم تنجز الخطة؟ "نذهب إلى طلب القرض أم لا نذهب"! هل هناك كوّة أمل لمصدر مساعدة مليارية؟ نحن الآن في جائرة فيروس كورونا ويتوسع. ونخشى تحوله وباء يخترق الحجز المنزلي الاحترازي. نؤكد ونُقسم، أن لا علاقة للحكومة لا بالجائرة ولا بالوباء. تمامًا كما لا علاقة لها بتركة الحكومات السابقة! يخيفنا كلام مستوردي المستلزمات الطبية عن نقص في تجهيزات التنفس، وتجهيزات أخرى لنقص في التمويل من مصرف لبنان. أعتقونا من أراجيف "احتياط مصرف لبنان". يبدو أن الحكومة دخلت بدورها في طلاسم مصرف لبنان وصناعة الغموض غير البنّاء الذي يرقى إلى التدليس. وزير الاقتصاد يقول أن الاحتياط "كان 29 مليار دولار أميركي. قررنا 7 مليارات لتمويل استيراد السلع الأساسية بقي 22"! قولوا للناس الحقيقة التي يعرفها القاصي والداني وسلطات الوصاية الدولية الملعونة. الاحتياط الصافي سالب منذ بداية السنة بنحو 44,8 مليار دولار أميركي. وربّما ارتفع اليوم. الباقي ودائع الناس يعتبرها مصرف لبنان والحكومة على ما يبدو احتياطًا. طالما الأمر كذلك قولوا الحقيقة وأن "قررنا التزام كل ما يتطلبه مواجهة الفروس المميت من هذا الاحتياط". والباقي على الأقدار. حجبتم ودائع الناس فهمنا. إمّا أن تفرج المصارف بقرار حكومي إلزامي عنها كي يستطّب الناس بها ويأكلوا، وإمّا أن تتفضلوا بتأمين مستلزمات الجائرة من أموالهم. أين الجائرة من جوركم!

كل ما يستشعره المواطن الآن، محاولات من السلطة السياسية لحماية المصارف والدولة ومصرف لبنان من حقّ الادعاء لاستعادة أموالهم وودائعهم. "لا مساس بأصحاب الودائع الصغيرة من 100 ألف دولار أميركي ودونها" يقول وزير المال غازي وزني. هؤلاء يمثلون أكثر من 91.5 في المئة من الحسابات المصرفية الاجمالية من 12 مليار دولار أميركي وما يزيد قليلًا. يعني أن في هذه الشريحة غالبية اللبنانيين الساحقة من أصحاب الحسابات. هؤلاء يعانون الآن. الكورونا طبقي أيضًا ومتحيز ضد الفقراء ومتوسطي الدخول! معرضون للإصابة أكثر لافتقارهم إلى سبل من الحماية وفيرة. وقاصرون عن مواجهته لقصور ذات اليدّ، قصورهم عن شراء الغذاء والكساء وأوَد يومهم. إفتكروا في كيفية حماية حقوقهم بدلًا من تحصين من وضع اليد عليها من الأحكام القضائية بهتانًا وظلمًا. 91.5 في المئة من المودعين لو حصلوا على حقوقهم يرفعون الحيف عن أنفسهم، ويعيدون تحريك الاستهلاك والطلب الداخلي في اقتصاد راكد سالب. كل ادّعاءات محاربة الفساد ثرثرة وتزوير وفساد بعينه، ما لم يستردّ القضاء استقلاله لينبت قضاةً مستقلين. سمعنا وزيرة العدل على التلفاز تتلعثم لتفسير قرارها ردّ التشكيلات القضائية الجديدة إلى منشئها مجلس القضاء الأعلى. هذا قرار كبير يُسأل رئيس الحكومة عنه وحكومته مجتمعة. وعادت الوزيرة لتجتزئ فقرة من المادة 95 من الدستور ونسيت فقرتها الأولى التأسيسية لإلغاء الطائفية السياسية والطائفية المُقرفة. عندما تتوفر الإرادة السياسية الغائية، تتوفرّ ذرائع تمويه باهتة عليها.

القضاء لا الحكومة
في مجلس القضاء الأعلى نثق. في الحكومة لا. نحن أحوج إلى قضاء مستقلّ وقاضٍ فَحل في مرحلة عسوف مقبلة ودهمت. هذان القضاء والقاضي كانا ليدخلا النائب هادي حبيش إلى السجن، بعد أن أهان القاضية غادة عون والقضاء واللبنانيين. في العهد العوني أفلت من العقاب. في عهد سهيل عبّود وقضاة مجلس القضاء الأعلى لا نحسبه طليقًا يتبختر بعد شائنته. ونختم، أي سيادة بقيت لشعب ممتهن في بلده؟ وقد استدعينا وصايات دول الأرض وقرارتها وتنكّرنا لوطننا.