إفصاح الثورة للمواجهة والديمومة

عصام الجردي
الإثنين   2020/02/03
المرحلة المقبلة تلقي على عاتق الثورة السلمية مهمات نوعية جديدة (علي علّوش)

لن نستبق الاجراءات التي تنوي الحكومة اتخاذها مع مصرف لبنان على صعيد استحقاقات الدين في آذار المقبل، وحقوق المودعين في المصارف وسعر صرف الليرة، وفتح التمويل لاستيراد المواد الأولية للصناعة والزراعة. الإجراءات حتى الآن وصفات طبية بلا فحوصات مخبرية وشعاعية مطلوبة بداهة لتشخيص المرض. ويقتضي التشخيص الإفصاح عن حجم الفجوة المالية في مصرف لبنان وفي المصارف وعن مسار الخروج الآمن من فخّ المديونية. خلافًا لذلك إمارات إعسار لا تستعيد ثقة الجمهور. الأمر الذي يستبعد الإعسار وخفض التصنيف إلى درجة التوقف عن الدفع، أن تقرر الحكومة فورًا وضع اليد على ممتلكاتها وأملاكها المصادرة و/أو المشغولة خلافًا للقوانين. وأن تحلّ كل مجالس الإدارات في المؤسسات العامة التي تعمل بقانون التجارة خصوصًا إنترا وشركاتها، وتقرر حسم وضعية مؤسسة كهرباء لبنان، وتأسيس الهيئة الناظمة ومجلس الإدارة. وتضع ضريبة على الثروة، وتبدأ مسار استعادة الأموال المنهوبة الذي يتطلّب سنوات. وأن يبدأ القضاء بخطوات متلازمة للتحقيق في وضعية كل تلك المؤسسات، في صرف النظر عن المحميات السياسية. إعادة جدولة الدين لا تجدي ما لم تكن مصحوبة بإصلاحات مالية ونقدية واقتصادية. والجدولة مشروطة بموافقة الدائنين حتى لو كانت حصة الأجانب وغير المقيمين من الدين الخارجي ضئيلة. لن يحصل هذا الأمر قطعًا. لو كان متاحًا قبل بدء مسار الانهيار لما بلغ مبلغه.  يبقى الدعم الخارجي العاجل. لن يتوفر من مصادره الدولية والعربية لحكومة يسيطر عليها "حزب الله". يتصرف الحزب وكأن كل شيء موقوف على الثقة بالحكومة.

ذاهبون إلى المواجع قال رئيس الجمهورية ميشال عون. قوى السلطة التي ترجلّت منها على خلفية استئثار التيار الوطني الحرّ بغنيمة التسويات، لا تأثير لها في تصويب المسار بعد أن باتت خارج السلطة. والحكومة ستمضي في طريق المواجع بلا محطة وصول آمنة والوقت يدهم.

الثورة أملٌ وحيد
بقي ضغط الثورة وكلمة الشعب من خارج الحكومة ومجلس النواب. المرحلة المقبلة تلقي على عاتق الثورة السلمية مهمات نوعية جديدة وخطابًا جديدًا. "ليست مهمتنا اتخاذ قرارات عن الحكومة" يقول الناشطون. صحيح. لكن طرح الأفكار العامة البديلة والرؤية ضرورة ليس لمساعدة السلطة على الخروج من مأزقها وترميم وضعها، إنما لخلاص البلاد. ولقطع الطريق على أطراف السلطة الذين تنحّوا على خلفية فشل تسويات الاستحصاص لضرب طابع الثورة الاستقلالي عن قوى السلطة مجتمعة ولتصفية حسابات مع الذين استأثروا بالسلطة. لكن الأهمّ، لربط الناس بعناوين صلبة تبقي على نبض الثورة. فإذا كان شرط تحقيق أهدافها لم يكتمل في فترات ذروة التحرك، فتمتلك قدرة على الاستمرار في فترات التراجع الكمّي بما يكفي من المدد الشعبي لتحقيق الأهداف النوعية. وصوغ برنامج على مراحل أولويات الظروف الراهنة، يكون جزءًا لا يتجزأ من الأهداف البعيدة التي يتطلّب تحقيقها مدًى زمنيًا يطول أو يقصر تبعًا للتطورات. من ذلك غزو المنتجات السورية الأسواق اللبنانية. وبيعها علنًا بلا رقيب. هذا تدمير للاقتصاد وفرص العمل والنمو. العمالة الأجنبية. حملة لاستهلاك المنتج اللبناني. وغير ذلك الكثير ممّا يحصل، ومتاح كي تتبنّى الثورة التحرك لمواجهته جنبًا الى جنب مع مطالب الانتخابات المبكرة بقانون بديل، والإصلاح المالي والسياسي، والشفافية واستقلال القضاء.

لبنان والعراق
ونخال الثورة على منعطفات سياسية الطابع في المرحلة المقبلة. لن تُسقط السلطة من اعتباراتها تصفية الحسابات مع الثورة حين بدء رحلة المواجع مع بدء الاجراءات الحكومية. وقد تندفع السلطة في حمقها الى استنساخ تجربة القمع التوتاليتاري في كل من العراق وإيران. أوجه الشبه بين ما يجري في العراق ومثيله في لبنان عجيبة في تطابقها. الفساد في العراق الذي ترسّخ زمن رئيس الحكومة السابق الموالي طهران نور الدين المالكي يكاد يكون غير مسبوق في دولة. استقالت حكومة عادل عبد المهدي تحت ضغط الشارع.  تعذّر تأليف حكومة جديدة فورًا. تم تكليف محمد توفيق علاوي. الشارع لم يقبل به. موازنة 2020 أعدتها حكومة عبد المهدي وأحيلت إلى مجلس النواب لتنفذها حكومة لا يد لها فيه وتدافع عنها. العراق واقع في قلب صراع طهران وواشنطن. وغير ذلك من شبَه الاستنساخ مع حال الثورة في لبنان. الفرق هو المقتلة الذي واجهها العراقيون المدنيون السلميون وعمليات اغتيال شخصيات علمية وسياسية، تُتهم بها فصائل مسلّحة موالية طهران. لذلك، فانتصار الثورة في لبنان أو في العراق لم يعد يعني إصلاح نظام سياسي أو تغييره أو تحقيق مطالب اقتصادية واجتماعية فحسب، بل يعني المشروع الإيراني الإقليمي في سياق الصراع مع واشنطن.

التمسك بسلمية الثورة أكسبها زخمًا شعبيًا، وتعاطف غالبية واسعة من الناس الذين لم ينزلوا إلى الشارع. العبث بالأملاك العمومية الممولة من الشعب نفسه يؤدي إلى مزيد من الأعباء المالية لإعادة إعماره وصيانته. وتكسير واجهات المصارف لا يؤدي قطعًا إلى نوال المودعين حقوقهم. وسلمية الثورة هي حائط الصدّ الذي يحدّ من استخدام السلطة أدوات القمع، ويعرّيها سياسيًا أمام الرأي العام اللبناني والدولي. ومن شأن استخدام الثوار العنف استباقًا لعنف السلطة، أو ردًا عليه، أن يقلب مفهوم العنف رأسًا على عقِب لمصلحة النظام الزبائني الطائفي. بينما الحقيقة أن أشد أنواع العنف أثرًا واقعٌ على معيشة الناس والأسر. وفقدان القدرة الشرائية وبهتان الأجور والدخول. وتراجع سعر صرف العملة ثلث قيمتها. وحرمان المودع من التصرف بملكيته وحقوقه. والبطالة. و40 في المئة من اللبنانيين بلا غطاء صحي. واستشراء الأمراض السرطانية والمزمنة، والبيئة والنفايات والمياه الملوثة. أزمة الكهرباء وتكلفتها الباهظة وكل الخدمات الإنسانية الأخرى. ولم يكن هذا الواقع صنيعة القضاء والقدر. بل صنيعة النظام السياسي الذي ما انفكّ ممسكٌا بتلابيب السلطة وأجهزتها. كل الشعب اللبناني يعاني هذا الواقع. فلماذا استسهال اللجوء إلى "الشغب" كي نخلق وظيفة لـ"فرق مكافحة الشغب" تتحينها السلطة لتفرغ المكبوت لديها أصلًا؟ وقد شكّل شعار سلمية الثورة حاجزًا معنويًا في وجه استخدام القوة المفرطة.

الإجراءات الحكومية نجحت أم لم تنجح، ستفرض على الثورة الانتقال إلى مرحلة جديدة في مقاربة المطالب والشعارات المرفوعة. قطعت الثورة مرحلة السرّية للتقية. الإفصاح مطلوب، والتوجه إلى الناس بأهداف وبرنامج شجاع وبسقف سياسي. كل المطالب مسقوفة بمظلة النظام السياسي. بلغت الثورة سن الرشد. كسرت الحُرم الطائفي والمذهبي والمناطقي. العفوية كانت زخمًا. التصميم الآن والوضوح والإقدام.