منتدى "الخبراء اللبنانيين" بباريس: اجتماع أعداء 17 تشرين

حسن مراد
السبت   2020/02/01
طلبت رئيسة الندوة عدم التطرق للمسائل السياسية! (المدن)

لم يكن صعباً استشراف غاية "منتدى الخبراء اللبنانيين" من تنظيم ندوة باريسية حملت عنوان "الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان: أي حلول لاستعادة الثقة". فهذا المنتدى الذي أُسِسَ بهدف تعزيز "الصورة المهنية" للبنان في فرنسا والعالم. التدقيق بالبرنامج والمواضيع المُتناولة، كما السيرة المهنية للمدعوين، دلّ، حتى قبل انعقاد الندوة يوم الثلاثاء الماضي، على أن الغاية منها هي إعادة تدوير المنظومة الاقتصادية في لبنان لتعويمها مجدداً. الدليل الأبرز على ذلك كان عنوان طاولة النقاش الثانية "دور المصارف اللبنانية في استعادة الثقة والتجديد الاقتصادي". 

"بلا سياسة.. رجاء"!
ولم يكن مسار الندوة إلا تأكيد على هذا الانطباع الأولي، الذي تكوّن لدى مجموعة من اللبنانيين المقيمين في باريس والمنحازين لثورة 17 تشرين. فما طُرِحَ خلالها لم يكن إلا عرض لوجهة نظر أحادية الجانب، تولاها 11 شخصاً من اللبنانيين والفرنسيين. وباستثناء السفير اللبناني لدى فرنسا، كان المتحدثون اللبنانيون من الفاعلين في مجال الأعمال وخصوصاً في القطاع المصرفي. أما نظرائهم الفرنسيين فكانوا، بمعظمهم، من الرسميين كرئيس لجنة الصداقة اللبنانية – الفرنسية في الجمعية العمومية، والمبعوث الفرنسي المكلف متابعة مؤتمر سيدر.

في معرض كلمتها الافتتاحية، وضعت رئيسة المنتدى، ندى شهاب، إطاراً للندوة، إذ طلبت عدم التطرق للمسائل السياسية والاكتفاء بالجانب الاقتصادي –التقني حصراً. أمرُ أثار دهشة عدد من الحاضرين، فنقاش أي سياسة الاقتصادية لا يكتمل دون تناول الإطار السياسي المحيط بها، نظراً للترابط البديهي بين الاقتصاد والسياسة، فكيف الحال ببلد كلبنان وفي ظل أزمة كالتي يمر بها حاليا؟ أزمة كشفت عمق التناغم بين الطبقة السياسية من جهة والأوليغارشية من جهة أخرى فكانت نتيجته، على سبيل المثال، استنزاف المصارف لموارد الدولة المالية، عبر فوائد الدين العام، واحتكار الأسواق من خلال الوكالات الحصرية المحمية قانونيًا. ولا نبالغ إن اعتبرنا وجود حالات مما بات يصطلح على تسميته بـ "زواج المال بالسياسة" وما يستتبعه ذلك من فساد وزبائنية.

تمييع وتعمية
وعلى هذه التعمية المفتعلة والمتعمدة بالقول أن الاقتصاد والسياسة في لبنان كتلتين مستقلتين. كانت وجهة نظر القيمين على الندوة، أن لبنان بأمس الحاجة إلى حلول اقتصادية حصراً! لم يتطرقوا إلى غياب الإرادة السياسية التي تعيق حكماً أي إصلاح اقتصادي. لم يخطر في بالهم أن اللبنانيين يطالبون كذلك بحلول تفضي إلى إصلاح سياسي، لا بل يمكن القول أنه جرى تمييع مطالب المتظاهرين من خلال إعلان المنتدى عن تنظيمه لحملة إغاثة غذائية - طبية استجابة لحاجات البلد.  

لم يأتوا على ذكر عيوب النظام الاقتصادي اللبناني وخلله البنيوي لا سيما نظامه المصرفي، لم يوجهوا انتقاداً واحداً للسياسة النقدية التي وفرت أرباحا طائلة للمصارف، ولا لارتباط الأخيرة بالشبكة السياسية الحاكمة. حتى انهم لم يأتوا على ذكر ما ارتكبته المصارف من مخالفة قانونية فادحة عبر فرض سقف للسحوبات وبصورة استنسابية.

أمور غابت بصورة فاضحة عن مجريات الندوة. وعليه ليس صعباً التأكد من أن الدعوة إليها لم تكن بهدف البحث الجدي في أسباب الازمة ومخارجها: لم تتم دعوة أي شخصية اقتصادية لطرح موقف مغاير، إضافة إلى إعطاء الكلام لعدد كبير من المتحدثين ما أجهض بطبيعة الحال أي نقاش في العمق.

الولاء للسلطة
كل ما عُرِض كان تعبيرا عن وجهة نظر طرف دون غيره، باستثناءٍ وحيد تجسد في مداخلة جان رياشي، المدير التنفيذي لـ FFA Private Bank، حين تطرق لضرورة تغيير المصارف اللبنانية لطبيعة نشاطها.

وحتى لو سلمنا جدلاً بصحة خطابهم الاقتصادي، يبقى أن تَعَمّد تهميش النقاش السياسي أفرغ أي طرح من فحواه. اتضح ذلك تحديدا بعد مداخلتي باتريك موليت (مدير وحدة مكافحة الفساد في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية)، وفاطمة بوهارشيش (الحقوقية المختصة في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب)، اللذين تناولا انعدام التشريعات اللبنانية في تلك المجالات لكن دون التطرق للسبب، سبب سياسي بالدرجة الأولى.

من جهته اعتبر بيار دوكان، المكلف متابعة مؤتمر سيدر، أن الهدف من المؤتمر المذكور دعم الشعب اللبناني مثنياً على ما تم تبنيه. قُدم المؤتمر كدليل على يد المجتمع الدولي الممدودة للبنان، فلم يعرض أي موقف معاكس استذكر مثلا توقيت الانعقاد الذي شكل دعماً للحكومة اللبنانية قبيل الانتخابات النيابية الأخيرة، أو فنّد ما تم اعتماده من مشاريع وصفها عدد من الأخصائيين بغير المدروسة وغير المجدية.

لكن وفي مناسبتين اثنتين تم التطرق للشق السياسي، تطرقٌ كشف ولاءً للطبقة السياسية اللبنانية: فأمين عام غرفة التجارة اللبنانية-الفرنسية، فريد عرقتنجي، جزم في مداخلته أن حكومة حسان دياب تحمل جوانب إيجابية. ما أثار سخط عدد من الحضور.

السفير مستفَزاً!
لكن البلبلة الأكبر أثارها سفير لبنان لدى فرنسا رامي عدوان: فبعد مداخلة اقتصادية من أحد الحضور، ذكر خلالها عرضاً شعار "كلن يعني كلن"، انتفض عدوان ساعياً إلى شيطنة الشعار معتبراً أنه لا يخدم مستقبل لبنان بل يسيء لسمعة الشرفاء فيه، ومدافعاً عن نفسه من أي تهمة فساد.

المفارقة أن صاحب المداخلة لم يتوجه لعدوان لا من قريب أو بعيد ولا حتى بالتلميح، لكن "سعادته" اعتبر نفسه معنياً ربما على مبدأ "اللي تحت باطه سلة بتنعره". فتسمية عدوان سفيراً في فرنسا عام 2017، أثارت جدلاً سياسياً وقانونياً. إذ كشفت صحف ومواقع إخبارية في حينها عما وصفته بالـ"فضيحة" على خلفية طريقة تعيينه. فهل يمكن اعتبار رد فعل عدوان تأكيداً على هذه المعلومات؟ وهل جوابه على هذا النحو دفاعٌ عن منظومة سياسية يمثلها؟ أم هو هجوم استباقي منعا لتوسع النقاش وطرح الحضور لملفات تطاله؟ 

معاداة الثورة
منذ 17 تشرين والجالية اللبنانية تتوجه للرأي العام الفرنسي لتوضيح ما قد يخفى أو يلتبس عليه، نظراً لتعقيدات المشهد اللبناني. لكن أبناء الجالية ليسوا متناغمين فيما بينهم. فما يشهده لبنان من تباينات حادة حيال الأزمة ينسحب أيضا عليهم. فيسعى كل طرف لاستمالة الشارع الفرنسي لوجهة نظره.

من دون مبالغة، يمكن القول إن هذه الندوة كانت معادية لثورة 17 تشرين لناحية المواضيع المطروحة، والشخصيات المدعوة ومسار المداخلات. الغاية منها بدت جلية: إعادة تجميل المنظومة السياسية والاقتصادية اللبنانية بعيون فرنسا المؤثرة في لبنان.