رياض سلامة و"إعادة الرسملة": يبيعنا السمك في البحر

علي نور الدين
الأربعاء   2020/12/02
كأن ما يجري عمليّاً هو عمليّة تواطؤ بين الحاكم والمصارف (الأرشيف)

كمن يبيع السمك في البحر، على حد قول المثل الشعبي الشهير، خرج حاكم مصرف لبنان ليطمئن اللبنانيين ويعدهم بعودة تدريجيّة لإنتظام العمل المصرفي/ ابتداء من شهر آذار المقبل، بعد أن يكون القطاع المصرفي قد أنجز عمليّة رفع الرأسمال المتوقّعة في شباط. وبنبرة عالية وثقة بالنفس، تحدّث سلامة عن توجّه مصرف لبنان لوضع اليد على المصارف التي تفشل في الامتثال لمتطلبات عمليّة إعادة الرسملة الموعودة. وكأنما أراد الحاكم الإيحاء باستعدادة للضرب بيد من حديد في مواجهة المصارف، التي ستخرج عن مسار إنعاش القطاع الذي ينظّمه الحاكم بتعاميمه.

للوهلة الأولى، قد يعتقد المشاهد أنّ ثمّة ما طبخه الحاكم ببراعة طوال الفترة الماضية. لكن ما إن يبحث المرء عن تفاصيل ما يجري فعلاً، حتّى يكتشف أن المصارف تمارس عمليّاً لعبة شراء الوقت والمماطلة منذ أكثر من سنة، في هذا الموضوع بالذات، من دون أن تنخرط في مسار إعادة الرسملة الذي يطرحه سلامة، مراهنة على عدم قدرة سلامة على إجراء مجزرة جماعيّة بحق كل المصارف المخالفة، التي لم تمتثل لشروط إعادة الرسملة، أو ربما عدم نيّته أساساً. لا بل يمكن القول أن سلامة قدّم حتّى اللحظة ما يكفي من تسهيلات لهذه المصارف إلى درجة إفراغ عمليّة إعادة الرسملة من جدواها ومعناها، من دون أن تقدم المصارف على أي تجاوب معه. وبغياب الخطوات المكمّلة لمسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي، والتي تُعنى بإعادة هيكلة الدين العام، والتفاوض مع الحكومة على هذه المسألة، يصبح من الأكيد أن إعادة الهيكلة اليوم ليست أكثر من حبر على ورق.

طبخة بحص
لا يحتاج المراقب كثيراً ليفهم أن الطبخة الموضوعة على نار إعادة هيكلة، ليست أكثر من طبخة بحص. في البداية، كان يفترض أن تبادر المصارف إلى زيادة نسبة الـ20% من الرساميل على مرحلتين، تنتهي الأولى منها في كانون الأول من العام الماضي، فيما تنتهي الثانية في نهاية حزيران الماضي. مع بداية العام، تبيّن أن عدد المصارف التي أنجزت المرحلة الأولى من العمليّة لم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، فيما تجاهلت باقي المصارف التعميم، من دون أن تقدم على أي خطوة بهذا الاتجاه. أما المسألة الأكثر الأهميّة هنا، فهو عدم بذل الكثير من المصارف حتّى عناء مراسلة لجنة الرقابة على المصارف، لإخطارها بعدم قدرتها على تنفيذ متطلبات إعادة الرسملة. أدرك الحاكم هنا أن المصارف وضعته أمام الأمر الواقع، أو ربما أراد بنفسه تجاهل المسألة بأسرها، كونه لم يبادر حتّى إلى مساءلة المصارف المتخلّفة عن تنفيذ التعليمات أمام الهيئة المصرفية العليا، ولو من باب اللوم أو التنبيه، عملاً بالصلاحيات الممنوحة للحاكم في القانون.

في كل الحالات، مرّ مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي بعد تلك المرحلة بالكثير من التخبّط، وتحديداً عبر قيام الحاكم بتشكيل لجنة لإعادة هيكلة المصارف، مع العلم أن تشكيل هذه اللجنة أتى بالتوازي –أو بالتنسيق- مع جملة من الخطوات التي أطاحت بمسار خطة الإصلاح الحكومي التي أعدتها حكومة دياب. وما إن بدأت اللجنة أعمالها حتّى تبيّن أنّها تعاني من ثغرات كبيرة، أكبرها تضارب صلاحياتها مع مسارات لم يتم البت بها في الحكومة نفسها، كنسبة الخسائر الناتجة عن تخلّف الدولة عن دفع سندتها، وقيمة الاقتطاع الذي ينبغي أن تتوقّع المصارف حصوله من قيمة هذه السندات. أما الأهم، فهو عدم انسجام لجنة الرقابة مع الدور الذي جرى إسناده لها، من خلال تمثيلها في لجنة إعادة الهيكلة، خصوصاً كون مهمّة لجنة الرقابة على المصارف هي رقابيّة بحت، ولا يُفترض أن تنخرط في أنشطة ذات طابع تنفيذي أو استشاري، من قبيل مشاركة المصارف وضع الخطط والاستشارات. ولعلّ التباين الفاقع بين الحكومة ومصرف لبنان في الخطط شكّل عاملاً إضافياً، زاد من حذر لجنة الرقابة على المصارف وريبتها من فكرة الانخراط في لجنة إعادة الهيكلة.

تسهيلات سخيّة
في المحصّلة، طارت لجنة إعادة هيكلة المصارف من تلقاء نفسها، واندثرت بالقدر ذاته من الغموض الذي أحاط تشكيلها، بعد أن طارت المهل الممنوحة سابقاً لإعادة الرسملة (أي في كانون الأول 2019 وحزيران 2020). لكنّ الحاكم أصرّ على وضع يده من جديد على مسار إعادة هيكلة المصارف بمعزل عن أي تفاوض أو تنسيق مع الحكومة، رغم تعثّر محاولاته السابقة. فأصدر مجدداً خريطة طريق جديدة لإعادة الهيكلة، ممدداً مهلة زيادة الرساميل بنسبة 20% حتّى نهاية السنة، فيما أضاف طلب تشكيل سيولة جاهزة في المصارف المراسلة بنسبة 3% من قيمة الودائع التي تملكها المصارف. ومع هذا الطلب، قدّم الحاكم تسهيلات سخيّة، أفرغت إعادة الرسملة من جدواها كعمليّة يمكن أن تزيد من ملاءة وسيولة النظام المصرفي، كالسماح بزيادة الرساميل عبر احتساب الزيادة في قيمة عقارات المصارف وشركاتها العقاريّة، وفتح المجال أمام زيادة الرساميل، عبر تقديم موجودات عقاريّة من قبل المساهمين، أو حتّى السماح بإستعمال الودائع نفسها لتقديمها كرساميل.

ومع ذلك، لم تتجاوب غالبيّة المصارف مع طلبات الحاكم. فبحلول الشهر الماضي، وبينما كان يُفترض أن تقدّم المصارف خططها لطريقة تنفيذ إعادة الرسملة، حسب خريطة الطريق الموضوعة، لم تقدم معظم المصارف اللبنانيّة على هذه خطوة. وهو ما يوحي بأن المصارف لم تتعامل بجديّة طوال الفترة الماضية مع مسار إعادة الرسملة بأسره.

وفي نهاية  الشهر الحالي، ستنقضي المهلة الممنوحة لزيادة الرساميل وتوفير السيولة في المصارف المراسلة، وسينكشف الغطاء عن الواقع كما هو. لكنّ المعطيات الموجودة حالياً لا تدفع إلى التفاؤل أبداً، خصوصاً أن عدم تقديم الخطط خلال الشهر الماضي يعني حكماً عدم وجود اتجاه لتنفيذ إعادة الرسملة لاحقاً، علماً أن أصحاب المصارف باشروا منذ فترة التمهيد لفكرة التخلّف عن هذا الموعد أيضاً. وفي كل الحالات، تشير مصادر متابعة للملف إلى أن عدد المصارف الممتثلة للمهل الموضوعة من قبل المصرف لبنان حتّى الآن لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، فيما اختارت الغالبيّة الساحقة من المصارف عدم التجاوب مع تعليمات الحاكم.

كباش أم تواطؤ؟
المصارف تراهن عمليّاً على عدم قدرة مصرف لبنان على تنفيذ حملة استحواذ واسعة النطاق، على جميع المصارف التي لم تمتثل لمتطلبات إعادة الرسملة، خصوصاً إذا كان عدد المصارف المتخلّفة عن هذه الشروط كبيراً، كما هو متوقّع. أما الحجج التي يرفعها هؤلاء، فهو عدم وضوح الآليّات المطلوبة لتطبيق التعاميم، وعدم وضوح كثير من المتغيّرات التي لم يتم حسمها بعد، كمصير السندات التي تخلّفت الدولة عن دفعها ونسبة الحسم منها ومصير الودائع التي وضعتها المصارف لدى مصرف لبنان، وقدرة مصرف لبنان على توفير السيولة لاحقاً لسداد قيمة ودائع بالعملات الأجنبيّة للمصارف. أما أهم ما في الموضوع، فهو تحجج المصارف بحالة الإفلاس العامة التي تصيب البلاد، من المصرف المركزي إلى الحكومة. وهو ما يعني بالنسبة إليها عدم جواز مطالبة القطاع المصرفي بتقديم السيولة لإعادة الرسملة قبل حسم الخيارات الأخرى المتعلّقة بطريقة توزيع الخسائر بين جميع الأطراف. وهنا يبدو واضحاً أن نقطة الضعف الأولى والأساسيّة في كل محاولات الحاكم، تكمن في تفرّدة برسم خريطة طريق إعادة الرسملة وحده، من دون تنسيقها مع الحكومة في إطار خطّة أشمل وأوسع.

وعلى أي حال، يبدو من هذه النبرة أنّ المصارف باتت تساوي نفسها بالدائنين الأجانب، الذين ينتظرون اليوم خطّة الدولة للتعامل مع الانهيار المالي قبل الإقدام على التفاوض وتحديد الخسائر التي سيتحمّلونها في إطار هذه الخطّة. كما يبدو أن المصارف باتت قادرة اليوم على رفع السقف في مواجهة تعليمات الحاكم بشكل أوضح وأقسى. وقد يعود ذلك لمعرفتها بظروف الحاكم الذي يعتبر نفسه مستهدفاً من قبل الكثير من الأطراف. وهو ما يعني عدم قدرته على فتح معركة إضافيّة في وجه المصارف، إذا إختارت التعنّت في وجه تعليماته.

من ناحيته، يبدو مصرف لبنان مصرّاً حتّى اللحظة على التعامل بليونة مع كل ما يجري على هذا المستوى، خصوصاً أن الفترة الماضية لم تشهد أي عقوبات على مستوى المصارف التي تخلّفت عن الامتثال لشروطه، سواء من خلال التنبيه أو تخفيض سقوف التسهيلات أو غيرها من العقوبات التي ينص عليها قانون النقد والتسليف، قبل الوصول إلى مرحلة الشطب من لائحة المصارف المرخّصة للعمل في البلاد. وبذلك، يمكن السؤال هنا عن حقيقة موقف الحاكم إزاء عرقلة القطاع المصرفي المتكررة لعمليّة إعادة الرسملة كما خطط لها. إذ يبدو أن هناك من يشكك بأن ما يجري عمليّاً هو عمليّة تواطؤ مستترة بين الطرفين، وليس عمليّة كباش حقيقيّة. وفي كل الحالات، من المفترض أن يكشف قرار الحاكم في شهر شباط المقبل حقيقة موقفه الفعلي من المسألة، بعدما حدد شهر شباط بمثابة الموعد النهائي لاتخاذ القرار بتصفية أو الاستحواذ على المصارف غير القادرة على السير بمشروع إعادة الرسملة الذي طرحه.