الطوابع المالية تُباع في السوق السوداء: مَن أحبط الصفقة؟

عزة الحاج حسن
السبت   2020/11/07
منذ أكثر من عام، وأزمة الطوابع تتفاقم (علي علّوش)
خلال العام 2019 بدأت صفقة "الطوابع المالية" تُطبخ على نار هادئة، ظهرت أزمة نفاذ الطوابع على مرأى من وزارة المال، المعني الأول بالملف، والعالِم بانتهاء عقد الشركة المتعهدة والمحتكرة عملية الطباعة منذ 15 عاماً.. تفاقمت الأزمة وطال أمدها حتى وصلت اليوم إلى شح الطوابع بشكل كبير، ودخولها في السوق السوداء، حيث يبلغ سعر الطابع الواحد نحو 35 ألفاً ويتم تحديد سعره وفقاً لمدى حاجة المواطن إليه، وما إذا كان يطلبه لمعاملة صحية أو أوراق ثبوتية أو غير ذلك.. منذ أكثر من عام، وأزمة الطوابع تتفاقم. والصفقة تتقدّم ببطء من دون أن يتمكّن "مهندسوها" من إبرامها، إلى أن تم تعطيلها منذ نحو 24 ساعة، فما الذي حصل طيلة عام في ملف الطوابع المالية؟ من المستفيد من الصفقة؟ وكيف تعطّلت؟

ملف الطوابع المالية تقف وراءه صفقة، كالغالبية العظمى من الملفات التي يستحكم الفساد في تفاصيلها.. فلم ييأس الفاسدون طيلة عام من نيل صفقتهم. ولم تفلح وزارة المال في بت الأمر، وتلزيم طباعة الطوابع المالية حتى مساء أمس، حين أعلنت الوزارة تلزيم مديرية الشؤون الجغرافية في الجيش اللبناني بتاريخ 6 تشرين الثاني، بعقد اتفاق رضائي لتأمين 20 مليون طابع من كافة الفئات.

ما الذي حصل قبل 6 تشرين الثاني؟ ولماذا لم تقم وزارة المال بإبرام عقد مع الشؤون الجغرافية في الجيش اللبناني قبل هذا الموعد، وقبل دخول الطوابع المالية في السوق السوداء وتعطيلها معاملات ومصالح آلاف اللبنانيين؟

تغاضٍ أم تواطؤ؟
اعترفت وزارة المال بلسان مكتبها الإعلامي في تقصيرها، وفي وجود قطبة خفية في ملف الطوابع، حين أكدت أن مجلس الوزراء أجاز لوزير المال، غازي وزني، بتاريخ 25/06/2020 بقراره رقم 11 تلزيم طباعة الطوابع المالية لمطابع الجيش.

أما توقيع مشروع عقد اتفاق رضائي مع الجيش فقد جرى بتاريخ 6/11/2020. وبين هذين التاريخين، كانت وزارة المال تتابع سير مناقصة عامة في إدارة المناقصات لتلزيم طباعة الطوابع المالية لشركة خاصة، ولم تحاول وزارة المال بعد تاريخ 25/6، أي بعد قرار مجلس الوزراء، تعليق المناقصة، بل استمرت بها حتى النهاية. أي لحين رسو المناقصة على شركة خاصة (إيديت إنك ش.م.ل.)، لتعود وتبرم عقداً رضائياً مع الجيش توفيراً للمال العام، كون سعر مطابع الجيش يقل كثيراً عن السعر المقدّم من الشركة.

مسار المناقصة "الصفقة"
حاولت وزارة المالية مراراً إجراء مناقصة لتلزيم طباعة الطوابع المالية. فبدأت المحاولات في شهر حزيران 2019 حين ردت إدارة المناقصات دفتر الشروط، بعد وضعها ملاحظاتها عليه. ثم أعدّت وزارة المال دفتر شروط جديداً في 26 كانون الأول 2019، فأعادته دائرة المناقصات مجدّداً في 15 كانون الثاني 2020 مع الملاحظات. ولم تغفل دائرة المناقصات حينها عن إضافة بند إلى دفتر الشروط يتضمن إمكانية اشتراك مديرية الشؤون الجغرافية في الجيش اللبناني في المناقصة، ذلك بالاستناد إلى قرار سابق لمجلس الوزراء، يطلب فيه إلى جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات اعتماد هذه المطابع، كونها الأدنى تكلفة عموماً.

بدأت قصة المناقصة "الصفقة" فعلياً بتاريخ 7 شباط 2020 حين أعلنت إدارة المناقصات عن مناقصة تلزيم طبع طوابع مالية للمرة الأولى. وحدّدت 16 آذار موعداً لفض العروض فتقدّم للمناقصة 4 عروض هي شركة inkript security s.a.l وشركة مركز الطباعة الحديثة ش.م.م. وشركة كوب انجنيرنغ أند كنسلتنغ ش.م.ل. وشركة إديت إنك ش.م.ل.

أرجئ موعد فض العروض بسبب إجراءات التعبئة العامة إلى 19 أيار 2020. فضت العروض الأربعة في الموعد الجديد وجاءت جميعها مطابقة للشروط الإدارية. أما بعد دراستها فنياً، فتبيّن أن ثلاثة عروض غير مطابقة للشروط الفنية باستثناء شركة inkript security الوحيد المطابق، الأمر الذي دفع لجنة فض العروض إلى عدم السير بالتلزيم. فأعادت الملف إلى إدارة المناقصات، بعد أن تبيّن لها وجود عرض وحيد مقبول إدارياً وفنياً.

حينها أعادت وزارة المالية الملف إلى إدارة المناقصات، لتحديد موعد جديد للمناقصة. وهو ما حصل فعلاً. فحدد 14 تموز 2020 موعداً جديداً لفض العروض (أي بعد إقرار مجلس الوزراء تلزيم وزارة المالية لمطابع الجيش) تقدمت للمناقصة 3 عروض هي شركة inkript security s.a.l وشركة غرين غلوري ش.م.م. وشركة إديت إنك ش.م.ل. وبعد فض العروض، جاءت جميعها مطابقة للشروط الفنية مع بعض الملاحظات غير الجوهرية على بعض العروض.

وبتاريخ 27 تموز، اجتمعت لجنة فض العروض. وبعد إطلاعها على التقارير الفنية، قرّرت فض العروض. فجاءت الأسعار كالتالي: شركة inkript security s.a.l  بمبلغ 9.4 مليار ليرة، أو ما يعادل 57.72 ليرة للطابع الواحد.
شركة غرين غلوري ش.م.م. بمبلغ 41.07 مليار ليرة، أو ما يعادل 251.97 ليرة للطابع الواحد.
شركة إديت إنك ش.م.ل. بمبلغ 8.14 مليار ليرة، أو ما يعادل 49.95 ليرة للطابع الواحد.
أما عدد الطوابع المطلوب طباعتها فهو 163 مليون طابع.

فارق التكلفة
أعلنت لجنة التلزيم في نهاية شهر تموز رسو الإلتزام على شركة إيديت إنك ش.م.ل. كونها قدّمت السعر الأدنى، أي 49.95 ليرة للطابع الواحد، إلا أن تكلفة الطابع المالي في مطابع الجيش تبلغ 19.32 ليرة للطابع الواحد. وهو ما يوفر مليارات الليرات على خزينة الدولة.

وطالما أن وزارة المال كانت على علم بالفارق الكبير بين تكلفة الطباعة في مطابع الجيش ولدى الشركات الخاصة، ومنها الشركة التي رست عليها المناقصة، وطالما أن مجلس الوزراء قرر في شهر حزيران تلزيم مطابع الجيش، لماذا استمرت وزارة المال بمسار المناقصة "الصفقة"؟ يجيب مصدر متابع للمناقصة، فيقول في حديث إلى "المدن"، كان يمكن لوزير المال أن يوقف المناقصة ويستردها. وبما أنها استمرت حتى النهاية، فذلك يؤكد أنه كان هناك صفقة، قد لا يكون الوزير على علم بها. لكن من المؤكد أن هناك مطبخاً داخلياً في وزارة المال، يطبخ الصفقات على قياس الشركات ويسمسر في كل طبخة.

أما الشركة الفائزة (إديت إنك ش.م.ل.)، فيمكنها اليوم اللجوء إلى القضاء، لأنها فازت في المناقصة ولن يُبرم معها أي عقد. لكن في شتى الأحوال، فإن سعر الشركة مرتفع جداً بالمقارنة مع سعر الجيش. من هنا، يُطرح السؤال الأهم: لماذا استمر عقد شركة inkript طيلة 15 عاماً وأسعارها مضاعفة عن أسعار الجيش. ولو عدنا إلى الوراء فقط لخمس سنوات وقارنا بين سعر الشركة وسعر مطابع الجيش، يمكن الجزم بأن الخزينة العامة كانت لتوفر عشرات مليارات الليرات من طباعة الطوابع المالية.