"قرار" مجلس النواب: الجنازة الماكرة لدفن التدقيق الجنائي

علي نور الدين
الأحد   2020/11/29
أراد رئيس الجمهورية التخلّص من كرة النار وإبراء ذمّته أمام المجتمع الدولي (علي علّوش)

منذ أن صدر قرار مجلس النوّاب المتعلّق بالتدقيق الجنائي، أو بالأحرى التوصية التي لا تؤثّر بمفاعيلها على الذرائع القانونيّة التي عرقلت التدقيق، بدأ الجميع بالبحث عن القطب المخفيّة التي يخفيها هذا القرار. خصوصاً أن تجربة اللبنانيين مع مسار التدقيق الجنائي تثبت أن وراء كل قرار تتخذه السلطة في هذا الملف، يخفي في طيّاته ألغامه التي ستنفجر أمام هذا التدقيق لاحقاً. فمن صوّت على قرار التدقيق الجنائي، ليس سوى الكتل النيابيّة نفسها التي استماتت للحؤول دون إنجاز التدقيق، خلال جميع مراحله السابقة. وكان بإمكان هذه الكتل في المراحل السابقة وقف كل العرقلة التي حدثت، لو تم إقرار مشروع قانون بسيط يوقف مفاعيل السريّة المصرفيّة. ببساطة، ثمّة ما يكفي من أسباب لدفع اللبنانيين إلى السؤال عن سبب إصدار هذا القرار في هذا التوقيت، وعن ما يخفيه من حِيل وألغام.

تلاعب بكرة النار
في المبدأ، كان من الواضح أن رئيس الجمهوريّة أدرك التداعيات الكبيرة والمقبلة لسقوط مسار التدقيق الجنائي، وتحديداً من جهة المانحين الدوليين، الذين وإن لم يصرّوا على عبارة التدقيق الجنائي، لكنّهم ألحّوا على مبدأ "التدقيق الشامل والمركّز". وهو ما جعل التدقيق الجنائي الرهان الأخير الذي يمكّن الجميع من فهم ما ألمّ بميزانيات مصرف لبنان من خسائر. ولذلك، بدا أن رئيس الجمهوريّة يريد التخلّص من كرة النار وإبراء ذمّته أمام المجتمع الدولي، فرمى بجمر التدقيق الجنائي الملتهب على مجلس النواب برسالته الأخيرة، التي حثّهم فيها على معالجة مسألة عرقلة التدقيق الجنائي.

وعمليّاً، تمكّن رئيس الجمهوريّة من اصطياد عصفورين في حجر واحد. فهو من ناحية أبعد عن نفسه اللوم كرئيس السلطة التنفيذيّة، فوضع المسألة في عهدة المجلس النيابي، للإيحاء بأن مصدر العراقيل هو الحواجز القانونيّة التي تتحمّل السلطة التشريعيّة مسؤوليّة معالجتها. ومن ناحية أخرى، زاد رئيس الجمهوريّة برسالته حجم الضغط على حاكم مصرف لبنان، المنهمك بترتيب أوراقه لتأمين خروج آمن من الحاكميّة، والحريص على إبعاد شبح شركات التدقيق التي لا تعرف الرحمة، عن ميزانياته التي تخفي ما تخفيه من إرتكابات المراحل السابقة. مع العلم أن الجميع يدرك أن العهد بات يتحيّن الفرصة للإطاحة بسلامة ووضع اليد على مركز الحاكميّة، الذي يتبع للموارنة بحكم المحاصصة الطائفيّة.

وفوق العصفورين، قد يكون عون أراد من رسالته أيضاً تسجيل بعض النقاط على المستوى الشعبي، خصوصاً أن مسألة التدقيق الجنائي تمثّل ملفاً حسّاساً بالنسبة إلى جميع المودعين المهتمّين بمعرفة مصير أموالهم في النظام المصرفي. فسقوط التدقيق الجنائي مثّل صفعة قاسية في وجه السلطة التنفيذيّة التي يمثّل عون رأسها، والتي تحمّلت اللوم الأكبر، لكونها وقّعت عقداً لا تعرف كيف تطبّقه، أو بالأحرى لم ترد تطبيقه فعلاً، في ظل وجود حاكم مصرف لبنان الذي يرفض التعاون، وجيش من صقور اللوبي المصرفي، الذي يصرّون على وجود حواجز قانونيّة لم تلتفت إليها السلطة عند صياغة العقد. مع الإشارة إلى أن عون نفسه أشرف شخصيّاً على صيغ العقد المختلفة خلال جميع مراحل إعداده، كما تدخّل مستشاروه بشكل متكرر، وأبدوا الملاحظات على مسودّات العقد قبل التوقيع.

المجلس يناور
وصلت كرة النار إلى المجلس، فتلقّفها رئيسه بإبتسامة ماكرة، قائلاً: وصلت رسالة الرئيس إلى المكان الصحيح. وفي المكان الصحيح، بدأت الكتل البرلمانيّة تعد العدّة لرد يبعد عنها تهمة عرقلة التدقيق الجنائي، لكن من دون أن يؤدّي الرد إلى تحقيق التدقيق الجنائي فعلاً. وهذا تحديداً ما حصل.

أولى تلك المناورات كان ربط الجميع التدقيق الجنائي في مصرف لبنان بالتدقيق الجنائي في سائر مؤسسات الدولة، مع علم الجميع أن سائر مؤسسات الدولة يمكن إخضاعها –إذا توفّرت النيّة- للكثير من الرقابات الإداريّة كالتفتيش المركزي وديوان المحاسبة ولمجلس الخدمة المدنيّة، أو الرقابات الدستوريّة كرقابة السلطة التشريعيّة نفسها، أو حتّى الرقابة القضائيّة كالنيابات العامّة الماليّة والتمييزيّة. بمعنى آخر، لا تتمتّع كل المؤسسات الرسميّة الأخرى بالحصانات التي يوفّرها القانون للمصرف المركزي، كما لا تتضمّن إشكاليّات كسريّة الأرقام وتعقيد الميزانيّات والهندسات الماليّة، حتّى يتطلّب التدقيق فيها تكليف مؤسسات أجنبيّة، إذا توفّرت النيّة لإجراء التدقيق. والأهم، أن أرقام وميزانيات مؤسسات الدولة الأخرى موجودة في وزارة الماليّة وحاضرة عند الحاجة. ولا يتطلّب البحث فيها الكثير من الأخذ والرد والدراسات المعمّقة.

ببساطة، ربط التدقيق الجنائي في مصرف لبنان بالتدقيق في سائر المؤسسات، استهدف تطيير التدقيق الجنائي في المرحلة المقبلة. فالكتل النيابيّة تعرف جيّداً أن عقد الحكومة السابقة مع آلفاريز آند مرسال بات من الماضي بعد أن فسخته الشركة نفسها. أي أن أي تدقيق جنائي جديد سيتطلّب تفاوضاً وتوقيع عقد جديد. وهذا متعذّر في الوقت الراهن، كون حكومة دياب باتت في مرحلة تصريف الأعمال، أي أنّها غير قادرة على الدخول في أي عقد جديد يرتّب على الدولة إلتزامات ماليّة جديدة. هكذا، سيتم ترحيل التدقيق الجنائي إلى مرحلة حكومة الحريري المقبلة، التي ستكون كما هو واضح حكومة محاصصة موصوفة وعلنيّة. وفي حكومات المحاصصة، سيكفي ربط التدقيق في مصرف لبنان بالتدقيق في مؤسسات الدولة الأخرى –كوزارتي الطاقة والأشغال مثلاً- ليطلب الجميع وضع الملف جانباً. ولعلّ هذا تحديداً ما أراد برّي الإشارة إليه بمكر ودهاء حين ركّز على تذكير النائب كنعان مرّتين بأن قرار مجلس النوّاب يشمل "مؤسسات الدولة الأخرى"، بنبرة هي أقرب إلى التحذير.

قرار وليس قانوناً
اللغم الثاني كان طبيعة الرد الذي قام به المجلس نفسه. في الواقع، كان بإمكان كتل المجلس النيابي أن ترد على رسالة رئيس الجمهوريّة عبر إقرار قانون واضح، بمادّة تعلّق العمل بالسريّة المصرفيّة، المنصوص عنها في قانوني النقد والتسليف وقانون سريّة المصارف عند تطبيق التدقيق الجنائي. خصوصاً كون الذرائع التي تحجج بها مصرف لبنان لعرقلة التحقيق تتعلّق تحديداً بهذه المواد القانونيّة. لكنّ المجلس النيابي بدل إصدار قانون واضح، لجأ إلى إصدار "قرار" لا يصل إلى رتبة تعديل القانون أو وقف تنفيذه. بمعنى آخر، إذا كان حاكم مصرف لبنان مصرّ على عدم قانونيّة تسليم المستندات المطلوبة إلى شركة التدقيق، فمن الطبيعي أن "قرار" مجلس النوّاب لا يغيّر في نص القانون أو طريقة تطبيقه شيئاً، وبذلك يصبح القرار الذي أًصدره المجلس النيابي أقرب إلى توصية عامّة لا تسمن ولا تغني من جوع.

وهكذا يكون المجلس النيابي قد طمأن القوى السياسيّة التي تقف خلفه، إلى عدم تجاوزه السقف الذي توافق الجميع على عدم تخطّيه. فلا أحد سيصر على استكمال التدقيق الجنائي، إذا كان قرار المجلس قد ربط تدقيق المصرف المركزي بالتدقيق بسائر مؤسسات الدولة. فحتى لو أنجزت الحكومة المقبلة توافقاً ما على هذه الأمر، فستظل العوائق القانونيّة كما هي، من دون أن يكون هناك أي تشريع يذلل عائق المواد القانونيّة التي تحجج بها مصرف لبنان، للإمتناع عن تسليم شركة التدقيق المستندات المطلوبة. وفي الوقت الراهن، سيكتفي مصرف لبنان بالرهان على كفاية التدقيق الذي يجريه حاليّاً المصرف المركزي الفرنسي في ميزانيّاته، بموجب تفاهم ثنائي بين المصرفين، ومن دون أن يكون هناك أي إشراف رسمي لبنان على هذا التدقيق. أمّا السؤال الأكبر فسيظل عن سر إمكانيّة سقوط السريّة المصرفيّة في حالة التدقيق الفرنسي، في مقابل التشبّث بهذه السريّة في مواجهة تدقيق تجريه شركة عالميّة، بطلب رسمي من مجلس الوزراء.