الضيف الثقيل على "الجمهورية القوية"

عصام الجردي
الجمعة   2020/01/03
لبنان مجمّع "الكارلوسات" في جمهورية بائسة (Getty)

لا تأتي المصائب فرادى. كان كارلوس غصن الحلقة المفقودة لتكتمل صورة لبنان الغارق في أزماته. الرجل الريادي المصنف أول في صناعة السيارات العالمية على رأس مجموعة رينو نيسان ميتسوبيشي، حطّ فجأة في مطار بيروت قادماً من طوكيو عبر تركيا. عملية "كوماندوس سلمية" أخرجته خلسة من اليابان، وكان ينتظر المحاكمة في نيسان المقبل بحزمة من الاتهامات الجرمية، تتعلق بالاختلاس والتهرب الضريبي. لو كان كارلوس راميرز سانتشيز الفنزويلي بطل عملية فيينا 1975، خارج السجن الباريسي الذي يقبع فيه الآن، لقلنا إنه رتّب عملية تهريب كارلوس غصن. غير ذلك، تُسأل دولة ما وراء تهريبه. ومعها كل من خطّط لمسار رحلته السريعة وسهّلها. ابتداء من اليابان إلى بلد المقصد. كارلوس الفنزويلي كان له ما أراد. طاف في طائرته المخطوفة بوزراء النفط العرب بين مطارات طرابلس الغرب والجزائر أكثر من مرة. كان سلاحه في أيدي مجموعته. كارلوس غصن حضر مكتوفًا في صندوق يرتعش خوفًا.

وتشاء الصدفة أن الـ"كارلوسين" مرّا بلبنان. غصن المتحدر من الدياسبورا اللبنانية في البرازيل ويحمل جنسيتها، إلى جنسية ثالثة فرنسية، لم تعنِ له كثيرًا محنة بلد أصوله  طيلة عقود. إستذكره هاربًا من مواجهة المحاكم اليابانية ليزيد من متاعبه لحظة شقائه. كارلوس راميراز سانشيز داعب رجال النخبة في الأمن الفرنسي بعد توقيفه في أحد مطارات باريس وهو في طريقه إلى المعتقل، بالحديث عن خصائص البندقيات التي يحملونها. قال إنه يتقن استخدامها منذ كان في مخيم شاتيلا في بيروت في ستينات القرن الماضي. قبل الـ"كارلوسين" استذكرنا أحد أثرى أثرياء العالم كارلوس سليم اللبناني المولود مكسيكيًا. زارنا قبل سنوات. غادر ولم يعد. لبنان مجمّع "الكارلوسات" في جمهورية بائسة تبحث عن منجاتها من انهيار مالي ونقدي واجتماعي. والجمهورية المسروقة تنشد العون المالي، وتحتاج فورًا إلى حزمة من مليارات الدولار الأميركي. وتعيش هاجس استعادة الأموال المنهوبة من أوليغارشيا تحالف سلطتي السياسة والمال. في التأكيد ليست وصفة ناجعة أن يستذكر كارلوس غصن بلاد أجداده ويشرّفنا في هذه اللحظة.

بعد 48 ساعة على وصول غصن إلى بيروت، نفى مصدر في رئاسة الجمهورية أن يكون الرئيس ميشال عون قد استقبل الضيف الثقيل الوطأة. لرئيس الجمهورية أن يقرر استقباله من عدمه. لكن النفي كان يفترض أن يحصل للتّو بعد شيوع نبأ وصول غصن ولقائه الرئيس، وانتشاره في وسائل الإعلام المحلية والعالمية. فرئيس الجمهورية هو الذي يقدّر مصلحة لبنان العليا في مثل هذه الحال. وطن "الجمهورية القوية والشعب العظيم" يحمي بنيه. لكن الزائر بعد طول غربة، هارب من عدالة دولة عريقة ومن اتهامات جرمية على رأس أكبر أمبراطورية صناعية تنداح شرقًا وغربًا، وتبلغ أصولها أضعافًا مضاعفة الناتج المحلي لمجموعة من الدول وموازناتها. بالإضافة إلى التعقيدات السياسية التي تنطوي عليها قضية في هذا الحجم. من هذه الجوانب يفترض أن يتعاطى لبنان مع القضية. وأن يحدّ من تداعياتها طالما حطّ "الطير المهاجر" في بلده. حماية الطيور المهاجرة تحكمها اتفاقات دولية أيضًا..

تداعيات محتملة
بعيدًا من الجوانب القانونية الدولية ذوات الصلة لاستعادة مطلوبين فارين، سنتناول قضيتين نحسب أن نتائجهما ستكون سلبية في ضوء ملابسات قضية غصن. الأولى، عزم لبنان على استعادة الأموال المنهوبة من الخارج. والثانية، التأثير المحتمل على علاقات لبنان الدولية والدعم المالي قروضًا ميسّرة ومساعدات من الدول المانحة والمؤسسات الدولية.

أولًا: كارلوس غصن متهم من القضاء الياباني بالتهرب الضريبي والاختلاس واستغلال المجموعة الصناعية التي يرأسها وسوى ذلك. في صرف النظر عن صحة الاتهامات، فالقضية لن تعبر بسهولة في اليابان. وسيكون لها انعكاسات سياسية لاستعادة غصن. ردّ لبنان الرسمي سيعوّل عليه، في حال بدء الاجراءات الحكومية لاستعادة أموال لبنانية مشكوك في صحتها تمّ تهربيها الى الخارج.

ثانيًا: اليابان دولة وازنة في مجموعة السبع الصناعية ومؤسسات المال الدولية. صحيح إنها انكفأت دولة أولى مانحة منذ عقدين، لكنها لا تزال مؤثرة في الإدارات التنفيذية للوكالات الدولية كصندوق النقد الدولي والمصرف الدولي ومجموعة العشرين. ولا يعتقد إنها ستكون وحدها في قضية صلبة لاستعادة هارب من العدالة تنطبق الاتهامات الموجهة إليه على تبييض أموال وجرائم جزائية. وعلى لبنان في حال عدم استجابة طلب استرداد غصن أن يتوقع مواجهة حلفاء اليابان وفي مقدمهم الولايات المتحدة ودول أوروبية وهيئات مكافحة تبييض الأموال.

ثالثًا: لم يتظهر موقف حكومي فرنسي بعد من القضية. هناك الكثير من التناقضات حيال المجموعة الصناعية بين الحكومة الفرنسية وبين الحكومة اليابانية. غصن ما زال يحظى بعطف سياسي ضمني في فرنسا. لكنه مغضوب عليه من النقابات العمالية الفرنسية بعد تسريحه عشرات آلاف العمال. والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يواجه منذ أسابيع إضرابات خصوصًا في قطاع النقل احتجاجًا على قانون التقاعد. في انتظار جلاء الموقف الفرنسي قد يكون تنسيق لبنان مع باريس مخرجًا مناسبًا.

معروفة بالأحجام والأسماء
عودة إلى التحويلات المالية إلى الخارج. هناك كمٌ كبير من الثرثرة بلا طائل. التحويلات السليمة محروسة بالدستور والقانون. التمييز بين أصحاب الحقوق في المصارف مسألة أخرى. الشكوك في تحويلات مشتبهة لسياسيين وعاملين في القطاع العام حصلت بالفعل. لكنها يفترض إنها خرجت "أموالًا نظيفة من المصارف وأودعت نظيفة". وإلّا عدم قبول إيداعها في الأساس. هذه ثغرة تحتاج إلى جلاء قبل إعداد ملف صلب للأموال المنهوبة وإثبات الأمر بالدليل كي تمكن استعادتها. لا جدال في أن بضعة مليارات أصبحت في الخارج. وكل التحويلات قابلة للتحقق منها ومن أغراضها. كيف؟ لجنة الرقابة على المصارف تتسلم تقريرًا شهريًا مفصلًا بكل التحويلات. إنما من دون أسماء. حاكم مصرف لبنان بصفته رئيس الهيئة الخاصة بمكافحة تبييض الأموال وأموال الارهاب، على دراية ويمكنه الاطلاع على الأسماء في حال الشكّ، من دون التذرّع بالسرية المصرفية. المدعي العام المالي عضو في الهيئة الخاصة. ويمكنه الاطلاع بدوره مع أعضائها. هناك تحويل واحد بقيمة 270 مليون دولار أميركي حصل لمصلحة أحد المودعين غير المقيمين، في الفترة التي فرضت فيها قيود على التحويلات. أرقام التحويلات معروفة باليوم والتاريخ. وأسماء أصحابها كذلك متاحة في الهيئة الخاصة. لماذا كل هذه الثرثرة؟ لنا عودة. لا يتسع المجال.