بطيش دقّ بـ"عمود السما"!

عصام الجردي
الإثنين   2019/04/08
طالب بطيش بمعرفة وتوضيح العمليات التي يقوم بها مصرف لبنان (دالاتي ونهرا)

لم يردّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على ما ورد في المؤتمر الصحافي لوزير الاقتصاد والتجارة، منصور بطيش. ملائكة سلامة كانت حاضرة، فتولت المهمة بلا تمحيص، ولا عقلانية ولا شفافية. الأطايب والنِعم لها وقع السحر على الملائكة أيضاً، خنوعةً مَقودةً مِطواعة. وبطيش تناول المحظور في لبنان. داس "الخط الأحمر". دقّ بـ"عمود السما". فاكفهرّت، رعدت  وأربدت. وكادت أن تسقط حمماً على لبنان واللبنانيين. أناخت سلسلة الجبال الشرقية لتصطدم بأمواج المتوسط وتحدث الإنفجار الثاني الكبير، لا يُبقي ولا يَذر. "إذا غضبت عليك بنو تميمٍ  حسِبت الناس كلهمُ غضابا"، على ما قال جرير في بني نمير وردَح.

"المصادر" و"الأوساط"
أغضب بطيش بني تميم. لا هو منهم ولا من بني نمير. له أن يدافع عن نفسه أم لا. يقال إنه ليس عضواً في "التيار الوطني الحرّ"، بل قريب من رئيس الجمهورية مباشرة. تعني الفرضية إنه "السما بذاتها وليس العمود فحسب". إذا كان بطيش في عداد وزراء  التيار الذين وقّعوا سلفاً كتب استقالاتهم من الحكومة، بناء على "فرمان الفتى الأغرّ" رئيس التيار جبران باسيل، وأودعوه إياها لتصبح نافذة من دون النشر في الجريدة الرسمية، في حال رأى باسيل أن وزيراً قصّر في واجباته، فهذا شأنه. لكن ما حصل من ردود فعل في الصحافة ووسائل إعلام لا تفقه السياسة المالية من السياسة النقدية كان فظاً وانتهاكاً لأصول المهنة.

كلام وزير على رأس وزارة الاقتصاد والتجارة. جاء في مؤتمر صحافي علني. أُخطرت به الصحافة ووسائل الاعلام. الردّ عليه من طريق ما وصف "أوساطاً" و"مصادر" يتعارض مع أبسط شروط المهنة. أقلها أن يأتي الردّ والردود من معلوم وليس من مجهول. نعرف كلنا قضية "المصادر" و"الأوساط"، ومفردات تجهيل الفاعل التي تضج بها صحافتنا ووسائل الإعلام. ولا تكتسب صدقية إلاّ حين إسنادها إلى "مصدر" و"وسط" في هيئة معينة أو مرجعية حكومية، بدءاً من رئاسة الجمهورية مروراً بمجلسي النواب والوزراء أو أي مرجعية أخرى. في هذه الحال يتلقف الجمهور الخبر أو الواقعة باليقين. ويتاح لـ"المصدر" و"الأوساط" نفي الخبر. ينسحب ذلك على الأفراد والهيئات. لكن أن تضخ الصحافة، التي كانت في يوم من الأيام توصف "رصينة"، أخباراً ومواقف وإيحاءات وإيماءات مقطوعة من جذرها وأصلها ومصادرها اليقين، فأمر إنما ينم عن أغراض لا علاقة لها بالقضايا مثار الجدل. قررت ببساطة وبلا جهد ومتابعة، إن ما قاله وزير الاقتصاد والتجارة استهداف لحاكم مصرف لبنان. ووصفته "خطراً على الإستقرار المالي والإقتصادي". وليس أوانه وقت شروع الحكومة البحث في الإصلاحات. وعزته إلى غايات لدى وزير الاقتصاد مرتبطة بتعيينات وشؤون وشجون. وتنكبت مهمة الدفاع عن سلامة. والعجب، أن بعض تلك الصحافة نصحت بنقاش هذه الأمور بين جدران مجلس الوزراء المغلقة. وهي ما انفكّت تطالب بالحرية والشفافية وحق المواطن بالوصول إلى المعلومة. وهذا حق الصحافة من باب أولى وواجبها. وتقضي الأصول المهنية واحداً من  أمرين حداً أدنى. إما أن ترسل الصحف المعنية ووسائل الإعلام من يسأل وزير الاقتصاد والتجارة عمّا تناوله في مؤتمره الصحافي العلني، وعمّا لم يتناوله من خلفيات وتوضيحات، طالما أن الأمر يتعلق بتداعيات خطرة وبـ"الإصلاح والاستقرار المالي"، وإمّا أن تتحلى بالشجاعة المهنية وترد على الوزير مقالةً، وتعليقاً، وتحقيقاً تتبناها بالقلم الصريح.

شفافية الحسابات
لكن ماذا قال وزير الإقتصاد والتجارة ليستدعي كل هذه الضجة والرجم. لم يتناول حاكم مصرف لبنان بالشخصي. بل تماهى معه في الكثير من المواقف، خصوصاً لناحية العجز المالي والسياسة المالية ووجوب اتساقها مع السياسة النقدية. طالب "بأولوية إعادة التوازن إلى المالية العامة تدرجاً وإقرار الموازنة". وألحّ "بإرسال مشاريع قطع الحساب منذ عام 1997 حتى 2017، التي أُنجزت وحُوّلت إلى رئاسة مجلس الوزراء، وعرضها على الحكومة لإقرارها وإحالتها مشاريع قوانين إلى مجلس النواب لتأخذ مسارها الصحيح، قبل نشر موازنة 2019 التي يجب أن تكون مؤشراً واضحاً على نيات الحكومة وخططها". لكن الوزير سأل عن شفافية حسابات مصرف لبنان المحدّدة في المادة 117 من قانون النقد والتسليف، وما اذا كان الحاكم قدم بموجبها تقريراً إلى وزير المال قبل 30 حزيران من كل سنة، للإفصاح عن الميزانية وحساب الأرباح والخسائر على السنة المنتهية، وتقريراً عن عمليات المصرف لنشر الميزانية والتقرير في الجريدة الرسمية، خلال الشهر الذي يلي تقديمها لوزير المال. لأن الهدف من هذه المادة هو مراقبة عمليات مصرف لبنان". قال بطيش ما مفاده، حتى الآن لم نطّلع على تقرير شامل يوضح العمليات التي يقوم بها مصرف لبنان تحت عنوان الهندسة المالية، وطبيعتها وتكلفتها ونتائجها الإقتصادية. وانتقد استغلال بعض هذه القروض المدعومة لغير أهدافها، وبعيداً من أهدافها الاقتصادية المحددة. "فقيمة القروض المدعومة تبلغ 15 مليار دولار أميركي للسكن ولقطاعات الإنتاج، فضلاً عن حوافز مؤسسة تشجيع الإستثمارات "إيدال". "وبالتالي يجب أن تذهب القروض إلى مستحقيها فقط من ذوي الدخل المحدود، كما إلى النشاطات الإنتاجية المولدة فرص العمل للبنانيين، والتي تخلق قيمة مضافة عالية في الاقتصاد. لا يجوز أن يبقى الدعم مشتتاً واستنسابياً، ولا يجوز أيضاً أن يبقى من الأسرار، خلافاً للأصول التي ينص عليها قانون المحاسبة العمومية".

واجب وزير الاقتصاد
نعم هناك قروض دعم إسكانية وإنتاجية ذهبت لغير مستحقيها. وبعضهم من الموسرين الذين تستضيفهم وسائل إعلام لينصحوننا بالإصلاح وينتقدون الإهدار والفساد ويشيدون بـ"عمود السما" ويتزلفون. سلامة على علم بذلك. طلبنا في مقالة سابقة نشر التقرير الذي أعدته لجنة الرقابة على المصارف عن القروض المدعومة من مصرف لبنان ومن وزارة المال. لماذا يبقى خبيئاً حتى عن مجلس الوزراء. ما هي مهمة وزير الاقتصاد والتجارة اذا لم يتطرق إلى كل هذه الشؤون؟ وإلى وجوب قانون موحد للضريبة. ووقف التهريب المعوق الأساسي لأي اتفاقات تجارية طالما الحدود البرية مع دمشق سائبة، والتجاوزات الجمركية في المرفأ والمطار. وقد ألمح بطيش إلى تناوله ما عرضه في مؤتمره الصحافي في جلسة مجلس الوزراء قبل 24 ساعة. لكنه لم يلقَ اهتماماً.

وجه الغرابة أن واحداً من الوزراء أو النواب أو السياسيين، لم يقف لتبني ما قاله وزير الإقتصاد والتجارة على أهميته. حتى من "التيار الوطني الحرّ". الكل ابتلع ألسنته. نعود إلى التأكيد. لا بديل من ثبات سعر صرف الليرة. ووزير الاقتصاد والتجارة لم يتعرض له. إنما طلب الشفافية والتقيد بقانون النقد والتسليف وبالقيمة المضافة المفترضة من الهندسات المالية والقروض المدعومة. مصرف لبنان يعمل باستقلالية بموجب القانون في سياسته النقدية والمصرفية كما معظم المصارف المركزية في العالم. لكن لا يوجد مصرف مركزي لا يُساءل في مجلس الوزراء والنواب ولجنة المال والموازنة واللجان النيابية عن سياساته وأهدافه لتتسق مع السياسة الإقتصادية والإجتماعية الكُلية. ومع أهداف النمو والتنمية. كما في كل بلدان العالم. كل وزير يعمل على هواه. كل وزير وزارة. وكل وزير حكومة. من يقرر سياسة لبنان الاقتصادية؟ هذا هو الفساد السياسي. دونه كل أنواع الفساد الأخرى.