هل يفعلها مجلس النواب؟

عصام الجردي
الأربعاء   2019/04/17
أكثر من 40 مليار دولار أميركي عجز مؤسسة كهرباء لبنان (مصطفى جمال الدين)

هل لبنان بلغ مرحلة الإفلاس حقاً؟ كتبنا مرة أنه في حال اعتبرنا لبنان شركة فهو مفلس بالمفهومين المحاسبي أولاً، والاقتصادي والمالي ثانياً. حين تخسر الشركة سنوات على التوالي، وتستنزف رأسمالها الأساسي ويفتقر أصحابها إلى القدرة على زيادة رأسمالها، وتتجاوز ديونها غير القابلة السداد 150 في المئة ناتجها، تصبح مفلسة بكل المعايير. وتبلغ هذه المرحلة أيضاً، حتى لو كانت تمتلك في مقابل الخصوم أصولاً ثابتة أكبر من الخصوم. لكنها ليست قابلة للتسييل للوفاء بالتزاماتها. لكن الدولة بمفهوم الوطن وليس الشركة، لا تكون مفلسة بالضرورة لو نظرنا إلى أصولها وحيازاتها، ومواردها وثروتها الوطنية. بيد أن كل تلك المقومات الصلبة تحتاج إلى رؤىً اقتصادية واجتماعية ونماذج، وإلى سياسات حكومية وبرامج، وإدارات كفية نزيهة وشفافة، لتفعيل الموارد والثروة الوطنية، وتعبئتها في النمو والتنمية، وتتكفل عدالة اجتماعية حسن توزيع ثمارهما. وعماد ذلك إعمال الدستور وسلطة القانون. وقضاةٌ مقدامون لا يستدعون تدخل السلطة السياسية في أعمالهم، وقد منحهم الدستور استقلالاً لا لبس فيه.

النظام الحرون
لبنان ليس وطناً مفلساً. النظام السياسي أفلس من زمان. إنكشف الآن لأن أوليغارشيا السلطة والمال لم تعد قادرة على الاحتفاظ بامتيازاتها النفعية. النموذج نفسه الذي كان يدرّ المال والتدفقات النقدية، هرُم وشاخ، نتيجة شحّ الموارد بفعل تحولات جيوسياسية واقتصادية وأمنية في الإقليم. ولم يفلح النظام ولا أراد، تحويل نعمة التدفقات عبر عقود نموذجاً اقتصادياً إنتاجياً وتنموياً قابلاً للإستدامة. وكان الأمر متاحاً وعبر عقود أيضاً. الإمتيازات النفعية يسدنها نموذج الريوع المستدام، عدو النمو المستدام، والتنمية المستدامة والعدالة الإجتماعية. النظام الحرون إعتدى على المواطَنة. وحوّل المواطنين من مريديه زبائن يبيعهم الخدمات العامة وما تيسّر منها. وهي ممولة أصلاً من خزانة دولتهم. كان المشهد واضحاً منذ 2011، حين بدأ ميزان المدفوعات يسجل عجوزاً سنة تلو الأخرى، خلافاً لمساره التقليدي فائضاً. وحين راح النمو بالتراجع نحو السالب والراكد، وراح العجز والدين يتفلتان من الضوابط، تيقّنا إننا ذاهبون إلى ما نحن فيه اليوم. مع ذلك استمر النظام السياسي في النهج نفسه. وكان يعلم بكل أطيافه وأحزاب سلطته، لاسيما منهم من يدّعي العفّة والإصلاح ومحاربة الفساد، إننا في نفق الإنهيار المالي وما بدّلوا تبدلياً.

الإصلاح لا المال
منذ نيسان 2018 يتحدثون عن مؤتمر سيدر منقذاً. ونحن نريد تعهدات المؤتمر بالإصلاح أكثر مما نريد أمواله. ماذا نفذنا من إصلاحات سيدر في السنة نفسها بعد المؤتمر؟ كان العجز المالي في 2017 سنة سلسلة الرتب والرواتب، نحو 8 في المئة إلى الناتج المحلي. في 2018 بلغ نحو 11 في المئة. في 2017 أقرّ مجلس النواب الموازنة الأولى منذ 2005 بلا قطع حساب. وتعهدت الحكومة بموازنة منتظمة في 2018 وبقطع حساب. لم يحصل. في 2019 يتكرر المشهد نفسه وسندخل الشهر الخامس ننفق على القاعدة الإثنتي عَشرية بلا موازنة ولا قطع حساب خلافاً للدستور. والإنفاق وفق القاعدة المذكورة لا يكون إلاّ لشهر واحد بعد نهاية السنة المالية. أي كانون الثاني. هذه مخالفة ثانية للدستور. هناك قرار بعدم زيادة الموظفين في القطاع العام إلاً ما تفرضه ضرورة ملء الشواغر ومن خلال مجلس الخدمة المدنية. حتى الآن لا يوجد رقم للمتعاقدين الذين أُدخلوا قبل الإنتخابات النيابية في أيار 2018، أي بعد شهر واحد من تعهداتنا بالإصلاح الهيكلي والقطاعي في سيدر.

لم ينته المشهد فصولاً. مجلس النواب سيجتمع اليوم الأربعاء لمناقشة خطة الكهرباء. أكثر من 40 مليار دولار أميركي، أي أقل بقليل من نصف الدين العام نجم عن عجز مؤسسة كهرباء لبنان التراكمي. والتيار على حاله عاراً على لبنان واللبنانيين. ويريده دعاة الإصلاح والتغيير الذين سجلوا باسمهم وزارة الطاقة والمياه إكليل غار "لو لم يعرقلونا"! بكثير من الغرابة تلقفنا تصريح رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد باللغة نفسها يحضّ مجلس النواب على "عدم عرقلة الخطة". رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري يلقي باللوم على تسريب معلومات عن بند الإعفاءات من غرامات التخلف عن سداد الضرائب، كان مدرجاً في جلسة المجلس. هكذا حالنا. وكأن المشكلة في تسريب النبأ وليس في التخلف الضريبي من الشركات الأكبر في البلد. لا نزال في كنف الأوليغارشيا. في السياق نفسه يسير كل شيء. الشعب يريد الكهرباء ولا يريد العتمة. لكن التيار لا يتوفر إلاّ بخطة مناوئة للدستور والقوانين والشفافية. يتمسك الشعب بتثبيت سعر الصرف. لكن ضمن رؤية شاملة للاقتصاد الكلي، والتوازن بين محركات الاقتصاد والوضعين المالي والنقدي من خلال جهاز غير موجود لتنسيق السياسات. يريد القروض المدعومة من مال الشعب. لكنه يريد الشفافية فيها، وأثرها الإقتصادي وقيمتها المضافة، وفرص العمل التي تستولدها للبنانيين. الموسرون لا حقّ لهم بالحصول على قروض الإسكان المدعومة. وقد حصل بعضهم عليها.

شرط الشفافية وحكم الدستور
عودة إلى خطة الكهرباء التي أسرّت وزيرة الطاقة والمياه ندى البستاني بتفاصيلها في ندوة جامعية قبل أن يطلّع عليها مجلس النواب. ويبدو إنه سيقرّها. لكن لا بدّ من تعديلها بما يتلاءم مع الدستور والشفافية في مشروع بمليارات الدولار الأميركي وبهذا الحجم من الأهمية. إخراج مؤسسات الرقابة والشفافية من الخطة أمرٌ غير مسموح، بالغاً ما بلغ ابتزاز الخيار بين الخطة وبين العتمة. تتفرد وزارة الطاقة والمياه بموجب الخطة بإعداد دفتر الشروط. التصميم، والتلزيم، والإنتاج، والتشغيل، والتسليم إلى الدولة بعد فترة زمنية. وتحدد الوزارة الشروط الإدارية والمالية والتقنية. هذا حقٌ للوزارة. لكن لا يُعقل إمرار مشروع بهذا الحجم والتكلفة من خارج إدارة المناقصات. لماذا يخافون هذه الإدارة؟ الأمر الثاني المهم جداً، هو استثناء مراحل معينة (غير محددة) "من أحكام قانون المحاسبة العمومية وسائر النصوص ذوات الصلة بأصول التلزيم التي لا تتفق مع طبيعة التلزيم والعقود". كل التجارب المماثلة لتلزيم مشاريع (BOT) في الدول العربية والأوروبية تراعي تشريعاتها ما ينص عليه قانون المحاسبة العمومية. تدمج الخطة الحل الموقت بالدائم لملتزم المشروع. هذا يعني دوام البواخر حتى بناء المعامل. أي لا نزال في العجز الدائم لصفقات الفيول أويل المشتبهة. الشركة الملتزمة المشروع يفترض أن تكون قادرة على تأمين المولدات الصغيرة الحجم في أكثر من منطقة للإستغناء عن البواخر. يستحيل تنفيذ الحل الدائم بخطوط النقل الحالية ما لم تحل عقدة التوتر العالي في المنصورية. لكن لا نفهم الإصرار على عبور الخط على بعد أمتار من سطوح منطقة آهلة بالسكان والمدارس. مجلس النواب مُطالبٌ اليوم بقانون دستوري وشفاف يؤمن الكهرباء لغسل هذا العار. ونذكّر بأن الكهرباء وحدها من بين القطاعات التي تنطبق عليها تعهدات الإصلاح القطاعي والهيكلي التي وعدت بها الحكومة. فهي أكبر قطاع خِدمي من جهة، وأكبر عبء على العجز والدين من جهة ثانية بعد خدمة الدين. وأكبر فضيحة في الإدارة اللبنانية على مرّ العصور. والخطة مؤشر مهم إلى مسار الشراكة بين القطاعين العام والخاص. هل يفعلها مجلس النواب؟