الإنفصام الحكومي في الحُقبة السوداء

عصام الجردي
الإثنين   2019/03/25
لم تُلحق إدارة حكومية في العالم، أذى بالمواطن كما حصل مع إدارة الكهرباء في لبنان (Getty)
هل بدأ ربابنة السلطة عندنا يقفزون من السفينة منجاة من الغرق؟ هل أصبحت الشكوك تراودهم حيال الحصول على تعهدات مؤتمر سيدر، معطوفة على شكوكهم في إمكان إنجاز الإصلاحات المطلوبة، وفي مقدمها خفض العجز ووضع حد لفضيحة الكهرباء؟ وهل بدأوا يشككون في نفاذ لبنان من أزمته المالية والاقتصادية في أي حال؟ التدبير الذي اتخذه وزير المال علي حسن خليل يوم 22 آذار فيه بعضٌ مما سبق ذكره. "إخطار مراقبي عقد النفقات في وزارة المال بوقف حجز النفقات إلاّ على الرواتب والأجور وتعويضات النقل الموقت إلى حين تعليمات أخرى"، كناية عن إعلان ذي وجهين. حكومين "ليتحمل الكل مسؤولياته". وسياسي ليجتنب الوزير وفريقه التصرف منفرداً.

الدولة القاصرة
واضح أن وزير المال يوجه رسالة إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، لنشر القانون الذي أقره مجلس النواب في جلسته الأخيرة. ويخوّل الحكومة الإنفاق على القاعدة الإثنتي عَشرية حتى 31 أيار 2019، بأمل إقرار موازنة السنة. بالإضافة إلى 794 مليار ليرة لبنانية، سلفة خزانة لمؤسسة كهرباء لبنان. رئيس الجمهورية أقرّ القانونين السبت الماضي. لكن نشرهما في الجريدة الرسمية لم يحصل بعد. في السياق  نفسه، يُفهم إعلان مؤسسة كهرباء لبنان عن احتمال خفض محسوس في إمدادات التيار، حتى فتح وزارة المال اعتمادات شراء الوقود. لوزير المال أن يفعل ما فعله. المادة 59 من قانون المحاسبة العمومية تحظر عليه الإستمرار في النفقات بلا غطاء قانوني. وحين نشر القانون يجب أن يلغى التعميم بحجز النفقات. وإعلان مؤسسة كهرباء لبنان له ما يسوغه. معامل الكهرباء لا تعمل بلا وقود. لكن بين وزارة المال وبين مؤسسة كهرباء، يتظهرّ مشهد الدولة القاصرة. لا لزوم أصلاً لقانون سلفات الخزانة للإنفاق شهوراً خمسة من خارج موازنة، لو صدر قانون الموازنة قبل نهاية 2018. ولا حاجة أساساً للتمادي في تمويل مؤسسة كهرباء لبنان لدعم فشلها المدوي. وحصة عجزها التراكمي مع فوائده قد تكون لامست 45 في المئة من الدين الدين العام الإجمالي.

موازنة 2019، وملف الكهرباء تحديان دونهما الإنهيار المالي. ونقتبس من تجارب دول أعتى من لبنان اقتصادياً ومالياً، أن الإنهيار المالي هو أسوأ نماذج الإنهيار المعممّ. ولا حاجة للتذكير بتبعاته على الاقتصاد الكلي ونتائجه الإجتماعية، متى علمنا أن الدولة مدينة والمصارف دائنة. هل يأبه سلاطين الحكم عندنا لهذا الشأن ودلالاته؟ بالموازنة نبدأ وننتقل إلى الكهرباء.

أبواب النفقات
لننسَ تعهدات سيدر وشروط الإصلاح القطاعي والهيكلي. موازنة 2019 يجب أن تتضمن خفضاً في العجز أكثر 1 في المئة حداً أدنى إلى الناتج المحلي. ولا يمكن أن تتجاوز في أي حال من الأحوال بالأسعار الثابتة على أساس التضخم، حجم موازنة 2018 من 23 ألف و891 مليار ليرة لبنانية. أي نحو 16 مليار دولار أميركي. كل الأنظار لخفض العجز مركزة على خفض النفقات أكثر منها على زيادة الإيرادات. الخياران معاً هما الأسلم والأنجع للتوصل إلى نتائج حميدة. هناك الكثير من أبواب النفقات يمكن قفلها نهائياً. وباتت معروفة. تستعصي مقاربتها في معزل عن ملف الفساد. وهناك همسٌ لا يجرؤ أحدٌ على مقاربته في العلن، ويتصل بمعاشات التقاعد للأجهزة العسكرية والأمنية خصوصاً. وبنظام التأمينات الإجتماعية والصحية المتنوع. وكلما دخلت مكافحة الفساد في الحظيرة السياسية كلما تعقدت الأمور على خفض النفقات والتوصل إلى نتائج مرضية.

وزير المال أكد أكثر من مرة أن موازنة 2019 لن تتضمن زيادة جديدة في الضرائب. الركن الثاني لخفض العجز المالي. لكن الكلام حمّال أوجه. إذ لم يقل ما إذا كانت ستفرض ضرائب من خارج قانون الموازنة بقوانين مستقلة. وهذا ممكن ووارد بقوة. ودوافع وزير المال معروفة وتشبه دوافع تدبيره حجز النفقات. "إذا كنتم تريدون ضرائب فليتحمل الكل مسؤوليته". هذا توجه الوزير المدعوم من رئيس مجلس النواب نبيه بري. في المحصلة لا بدّ لخفض العجز من خفض النفقات والإهدار وكبح الفساد. ومن زيادة الضرائب من مطارح المال والثروة. ونعجب أن أحداً لا يتحدث من زمان عن ضريبة الدخل الموحدّ. ومن شأنها تنظيم القطاع الضريبي، ووضع حد للتهرب سواءٌ بما يتيحه القانون أو بالتحايل خلافاً إيّاه.

ثقب الكهرباء الأسود
أمّا ملف الكهرباء، فمسألة مختلفة كلياً. لم تُلحق إدارة حكومية في العالم، ممولة من المكلف أذى بالمكلّف نفسه والمواطن كما حصل في لبنان ولا يزال. مقاربة هذا الملف باقية كيف نؤمن الكهرباء. ولا تتم مقاربته من جوانب الفساد السياسي والإداري والقانوني. وكل جانب يفترض أن  يقود إلى الفساد المالي. فكيف بجوانبه كافة؟ مؤسسة كهرباء لبنان مصلحة مستقلة لا يديرها وزير الطاقة والمياه الوصي مباشرة. ولا يوجهها كما يريد. ألا يوجد حساب لمخالفة القوانين وعقاب؟ الهيئة الناظمة للقطاع لم تشكل خلافاً للقانون. مجلس إدارة من 3 أعضاء ويفترض من 7 انتهت مدته. التلزيم من خارج إدارة المناقصات. يعني خارج إحدى أهم إدارات التفتيش المركزي. شركات مقدمي الخدمات حصلت على صفقة في 2012 بنحو 785 مليون دولار أميركي أربع سنوات. لا الجباية تحسنت، ولا العدادات الذكية رُكبت في كل المناطق، ولا الإهدار تراجع على  الشبكة. مع ذلك، جّدد لها اكثر من مرة. آخرها في 2018 ثلاث سنوات جديدة. في خطة وزيرة الطاقة والمياه ندى البستاني، ما يصوب البوصلة من جديد إلى البواخر التركية. بينما تتحدث الخطة صراحة عن زيادة التعرفة إلى 217 ليرة لبنانية للكيلواط من 138 ليرة. ودائماً الحشرة في المرحلة الإنتقالية الفاصلة عن بناء المعامل. ولا يتم التعاطي بجدية مع استعداد سيمنز الألمانية، وجنرال موتورز الأميركية بناء المعامل، وتركيب معامل توليد صغيرة ريثما تجهز الكبيرة. زيادة التعرفة مقبولة لدى المواطن شريطة الفاتورة الواحدة لمؤسسة كهرباء لبنان من دون المولدات. تقول المؤسسة حالياً إنها تحتاج إلى 3800 مليار ليرة لبنانية. أي نحو مليارين و522 مليون دولار أميركي. كيف، ولماذا، والنتائج المالية مسألة فيها نظر. وستبقى في حاجة إلى تمويل الفيول أويل الثقب الأسود في عجز الكهرباء الذي لا يتحدث مسؤول عنه.

الإنفصام الحكومي مصدر الخطر. وسيستمر ما استمرت هذه الحقبة السوداء من تاريخ لبنان.