أميركا و"حزب الله".. والحسابات الرقمية

عصام الجردي
الإثنين   2019/02/04
قال مارشال: "يبدو أن الحكومة اللبنانية لا تعرف ماذا يجري في المطار ومرفأ بيروت" (دالاتي ونهرا)
قال مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة الإرهاب، مارشال بيلينغسلي، كلمته، وغادر بيروت. وترك للحكومة اللبنانية الجديدة أن تنزع شوكها بيدها. وأبلغ المصارف أن موقف الإدارة الأميركية من قضية تمويل "حزب الله" ثابت وصلب، على خلفية العلاقات مع إيران والعقوبات المالية والاقتصادية المفروضة عليها. بعض كلام "المارشال" الأميركي، من حصيلة لقاءاته الكثيرة التي عقدها في بيروت، كان صريحاً وفجاً. البعض الآخر، خصوصاً مع جمعية المصارف، احتمل تأويلات عدّة. لكن النتيجة واحدة. إبقاء لبنان ومصارفه في تجارب الضغط المستمرة والقلق التصاعدي. "رتبوا أموركم وسنتابع. ولا مجال للعبث"!

جديد الموقف الأميركي
الجديد المفاجىء الذي تركه "المارشال" في بيروت، يمكن اختصاره أربعة: الأول، عدم قَفل الحسابات الدائنة ( الودائع ) المشتبهة لـ"حزب الله" أو للأفراد والكيانات المتعاونة معه. بل تجميدها، وتصفية الحسابات المدينة. الثاني، طلبه إلى مصرف لبنان والمعنيين، إلغاء الحسابات الرقمية في الجهاز المصرفي اللبناني. الأمر الثالث، التركيز على الأموال خارج الجهاز المصرفي، التي تعتقد الخزانة الأميركية أن لـ"حزب الله" قسطاً كبيراً منها. وأما الرابع، فالتركيز على مطار رفيق الحريري ومرفأ بيروت، مشتبهين بأنشطة غير شرعية لمصلحة "حزب الله".

عدم قَفل الحسابات الدائنة، وطلب تجميدها وحسب، قد يكون الغرض منه قطع الطريق على استخدامها نقداً بعد القَفل. بما يتيح اقتفاء أثر أصحابها (Traceable) على نحو أجدى، طالما لم تخرج من المصرف وبقيت مجمّدة. علماً، أن القانون 44 المعدّل المتعلق بمكافحة تبييض الأموال وأموال الارهاب، قد حدّد حالات تجميد الحسابات المشتبة و/ أو تحريرها ومصادرتها، بعد بلوغها مرحلة حسم الملف من النيابة العامة التمييزية والهيئة الاتهامية. وفُهم أن الصيغة التي طلبها المسؤول الأميركي تتعارض مع أنظمة مكتب رقابة الأصول الأجنبية (OFAC) في وزارة الخزانة الأميركية، المعني في مثل هذه الحالات، وتتعاون معه الهيئة الخاصة بمكافحة تبييض الأموال وأموال الإرهاب في لبنان. وربما احتاج الأمر إلى تعديل في الإجراءات ذوات الصلة التي أصدرها مصرف لبنان، وأهمها الإعلام رقم 30.

أما الحسابات المدينة، فطلب مارشال وجوب قَفلها وتصفيتها. هذه قضية شائكة تبعاً لكل حساب على حدة، ويترتّب عليها أعباء تتحملها المصارف لتكوين مؤونات على قَفل الحسابات، في صرف النظر عن سداد المدين للمصرف من عدمه. وهناك تعميم في هذا المعنى لمصرف لبنان في حال قَفل الحسابات تنفيذاً "للإجراءات والعقوبات وللتقييدات المقررة من قبل المنظمات الدولية الشرعية أو من قبل السلطات السيادية الأجنبية، والعمل على تحصيل هذه الديون من العملاء من دون تعديل تصنيفهم الائتماني" على ما جاء في التعميم. في حين أكد تعميم صادر عن لجنة الرقابة على المصارف في 13 أيار 2016، أي بعد أيام على تعميم مصرف لبنان على قَفل الحسابات المدينة وحمل مؤونات عليها. وأوجب على المصارف المعنية التقدم من مصرف لبنان بعد ثلاثة أشهر لدرس تصنيف الحسابات وتحديد حجم المؤونات. والأمران مرتبطان حزمة واحدة. فحجم المؤونات يتقرر تبعاً لفئة تصنيف الدين والتمييز بين جودته وبين رداءته. أو في الفئات الوسيطة بين التصنيفين. وفي كل الأحوال، فالمصارف ستحمل أعباء المؤونات، إمّا من أرباحها وإمّا من أموالها الخاصة.

الحسابات الرقمية
المسؤول الأميركي أبدى امتعاض وزارة الخزانة من الحساب الرقمي المجهول الإسم. وهو نوع من الحسابات ليس متاحاً الاطلاع عليها إلاّ من جانب االمديرين العامين للمصارف ومن ينوب عنهم، ومديري الفروع. ويُعتقد أن مارشال طلب تعديل قانون النقد والتسليف لإلغاء الحساب المصرفي الرقمي، خلال زيارته رئيس مجلس النواب نبيه بري. ووصف التدبير بأنه"أبعد من موضوع السرية المصرفية". وفُهم من مصادر مصرف لبنان أن عدد الحسابات الرقمية محدود جداً ولا يتجاوز ألفي حساب. لكن المصادر نفسها لم تُفصح عن قيمة الحسابات الرقمية، لأنها مقصية من الاطلاع عليها، بموجب السرية المصرفية. وعُلم أن مصرف لبنان بدأ يبحث سبل تنفيذ الرغبة الأميركية لإلغاء الحسابات الرقمية. وسيعرض الموضوع على الحكومة حين مباشرة أعمالها بعد نوال الثقة. خصوصاً، أن جدوى هذا الحساب قد تضاءلت بعد أكثر من نصف قرن على قانون النقد والتسليف 1963.

..و"حسابات الظل"
ركزّ مارشال على الحسابات الدائنة الفردية التي قد تكون بأسماء حقيقية تخفي ودائع لـ"حزب الله". وتوقف كثيراً عند هذه النقطة. وهي الأخرى تحمل الكثير من التعقيدات لاقتفاء الأثر، باعتبار الحسابات كما عرضها المسؤول الاميركي تعود لرجال أعمال لبنانيين قريبين من الحزب، وآخرين للتمويه لا يُعرف إنهم محسوبون عليه سياسياً. والوصول إلى هذا النوع من الحسابات دونه جهود كبيرة، لا يمكن القيام بها من خلال التشريعات والأجهزة المعنية وهيئة التحقيق الخاصة. فمبدأ "إعرَف عميلك" (KYC) الذي تطبقه المصارف، وتفرض على المودع تعبئة إضبارة تثبت أن صاحب الوديعة هو المستفيد الحقيقي، من خلال اطلاع المصرف على دخله ومصادره، ومعلومات أخرى متنوعة قبل فتح الحساب الدائن، لا يكفي لكشف "الوديعة المفترضة من الباطن" لـ"حزب الله"، لدى رجال أعمال وأصحاب ثروات في لبنان والخارج، تظن بهم الخزانة الأميركية حراساّ لقبو مال الحزب. لا الظنين مستعد دائماً لـ"تحقيق جنائي على الجاز الأميركي"، ولا المصارف مستعدة على الدوام لاستجواب عملائها الذين يشكلون قاعدة أعمالها، ما لم تتلقّ معلومات واضحة تستوجب خلاف ذلك. ذكر مارشال بعض الأسماء التي زُودت المصارف إياها من (أوفاك) وقد قطعت علاقاتها بأصحابها. وهم قيد المتابعة من الهيئة الخاصة. لكن مارشال على نسق وزارة الخزانة، "الكل متهم حتى تثبت براءته"!

تركيز على المطار والمرافئ
"يبدو أن الحكومة اللبنانية لا تعرف ماذا يجري في المطار ومرفأ بيروت" قال مارشال خلال لقاء صحافي في السفارة الأميركية في بيروت. وقد فهمنا أن هذا الشأن كان من بين ما بحثه الموفد الأميركي مع المسؤولين. نعم، من زمان هناك مؤشرات إلى خلل كبير في هذين القطاعين، جدير بالمعالجة السريعة، بصرف النظر عن موقف الخزانة الأميركية، له علاقة بسيادة الدولة على مرافقها وبالرسوم والخزانة اللبنانية وليس الأميركية. وليس لـ"حزب الله" أو لغيره أن يحصل على امتيازات في المطار والمرفأ. ويبدو أن الامتيازات كثيرة في المرفقين والمستفيدون أكثر من طرف.

وعلى هامش زيارة مارشال، تسربت معلومات مفادها، إنه تمّ التأكيد على عدد من المنظمات غير الحكومية الناشطة، التي تتلقى مساعدات أميركية، بحظر التعامل مع أي كيانات لـ"حزب الله"، خصوصاً بعد تسلم الحزب حقيبة وزارة الصحة في الحكومة الجديدة التي قال مارشال إنها ستكون تحت المجهر الأميركي في المرحلة المقبلة.