حسان دياب.. ستعتذر إلى الشعب

عصام الجردي
الإثنين   2019/12/23
يمكن لأي مراقب عقلاني استشراف السقوط الكبير (عباس سلمان)

"لم يشترط عليّ أحد شيئا". قال الرئيس المكلّف تأليف الحكومة، الدكتور حسّان دياب. و"لن أعتذر" أضاف. تعهّد مطالب الثورة إلى حدّ التماهي. وحكومة اختصاصيين ومستقلين. وكأنه كُلّف تحقيق برنامجها بعد انتصارها المدوّي على السلطة والنظام. لا بأس. لكن مطالب الثورة على واقعيتها وبساطتها، طموحة وكبيرة جدّا. التصدي للفساد، واستعادة المال المنهوب، والشفافية، وفرص العمل، والخِدمات، والعدالة وسواها، هي فعل وفاعل ومفعول به. الفعل لا يعوزه دليلٌ. حصل ويحصل. المفعول به نستقدمه على الفاعل، وهو  الشعب والوطن وكرامة الانسان. أمّا الفاعل فالنظام "الأوليغارشي". وحرّاسه في السلطة وهم الذين كلّفوك يا دولة الرئيس المكلّف تأليف حكومة لتطبيق مدونة السلك الحسن! بعض حرّاس النظام لم يكلفّك. قرأ لغة الثورة والناس مبكرًا، فقفز من السفينة قبل الغرق وخرج من السلطة. الخروج ليس غفّار الذنوب. فمن سبح في أوحال السلطة الآسنة يخرج مبتلًا لا محالة. ربمّا لم يعد ثمة من شرط يطلبه المكلّفون. خرج سعد الحريري أو أُخرج كفى. باتت مقبولة حكومة "مستقلين بالكامل واختصاصيين".

الحكومة ليست معقودة على الحريري. "لو دامت لغيرك لما وصلت إليك". والده الشهيد رفيق الحريري وضع النصّ المجهول النسب، محفورًا على السراي الحكومية مقرّ مجلس الوزراء. نعلم مدى الحرج الذي ينتابك في بيئتك، بقبولك تأليف حكومة من خارج "الميثاقية اللعينة"، التي أخرجت الأقوى في طائفته. بينما هي ركينة مستقرة على ضلعي الميثاقية الآخرين في رئاسة الجمهورية ومجلس النواب. "الميثاقية اللعينة" تلك التي أيعنت على حساب الدستور والمؤسسات نتيجة التسويات التي عقدها الحريري مع التيار العوني. وأنتجت انتخاب رئيس الجمهورية ميشال عون والحريري رئيسًا للحكومة إخراجًا لقرار نهائي من "حزب الله"، هي نفسها التي عطلّت الدستور، وعمل مجلس الوزراء، ورقابة مجلس النواب، ومؤسسات الرقابة والمحاسبة، والإدارة القضائية في دولة لبنان. التسوية السياسية كانت من خارج الدستور. عون رئيسا والحريري رئيسًا للحكومة. الاستشارات كانت لتنفيذ مفاعيل التسوية. "حكومة استعادة الثقة" كانت الأولى. والثانية "إلى العمل" بالطريقة نفسها. الأولى لم تستعد ثقة. والثانية ذهبت إلى العمل بلا ثقة ولا عمل. وبدأ مسلسل الانهيار.

للحريري أن يراجع حسابات الربح والخسارة التي حصدها من تلك التسوية ليس في بيئته فحسب. بل وعلى مستوى لبنان واقتصاده وأزماته. ولـ"حزب القوات اللبنانية" أن يقيّم جدوى تسوية أخرى عقدها في "اتفاق معراب". شأن ذلك شأن الذين انصاعوا ترغيبًا وترهيبًا للتسويات. أمّا شأن لبنان واللبنانيين وثورتهم، وشأن الناس لا علاقة لهما بكل تلك التسويات الرثّة المعقودة على حساب آلامهم ومستقبلهم.

"الميثاقية" والدستور معًا!
الآن الميثاقية والدستور يسقطان معًا بلا إعلان. تمامًا كما سقط النظام السياسي والنموذج الاقتصادي معًا بلا إعلان. ليبقى السؤال عن الاطار المفهومي الذي بقي لادارة دولة سيادة وسلطة القانون والمؤسسات؟ وكيف يمكن لدولة في طور الانهيار الشامل ماليًا ومصرفيًا ونقديًا تفادي انهيار شامل في ظل هذا الوضع؟ وكيف الخروج من القاع إلى سطح الماء للإقلاع من جديد؟ كيف نتفادى الانهيار الشامل والفوضى العارمة وسوء المصير؟ ونستدرك، يريدون أن ننسى النمو السالب والركود، وفرص النمو الضائعة مليارات الدولار الأميركي في سيناريو خلافًا للوضع الراهن. والنمو يبقى حجر الأساس لكل آفات الانهيار التي سلف ذكرها. ومعها استعادة الدفق النقدي لتصويب ميزان المدفوعات، والاستثمارات، والصادرات، والسياحة وإيرادات الخزانة والموازنة، وفرص العمل وغيرها. وقد بات قدرنا أن نهجس بالدهماء فحسب.

كان يمكن لأي مراقب عقلاني استشراف السقوط الكبير. لأن المسار الاجرامي العَمد على دولة الدستور والقانون والمؤسسات من جهة، وعلى الاقتصاد الوطني من جهة ثانية، بانَ لذوي الأبصار في حكومات "النفاق الوطني" والمعارضة الممنوعة. وعلى المستوى المالي - النقدي، بدء نضوب الموارد والتدفقات النقدية وعجز ميزان المدفوعات منذ 2011، مع تراجع واضح في النمو على المستوى الاقتصادي.

دولة الرئيس المكلّف، "الأوليغارشيا" لن تطلب شيئًا إليك. ولن تشترط. لأنها حصلت على كل شيء. المغانم والمال والسلطة ولم يبق شيء. ولا نراك تتجاهل شؤون البلد السيادية وسلطة الدولة والمؤسسات. وهذه القضية الفيصل التي لا يمكن فصلها عن الانهيار المالي والنقدي الذي نشهده الآن. لن نحمّلك وزر ذلك منفردًا. أسلافك أسلسوا قيادهم في هذا الشأن. وتركوا السياسة الخارجية والدفاعية يقررها "الحلف الممانع" على خلفية العداء لانتماء لبنان العربي. ولعمقه الاقتصادي والمالي، مصدر التحويلات الخارجية الأساسية من اللبنانيين العاملين في دول الخليج العربي. وأوصدوا أبواب الاستثمارات المباشرة. لو أراد "الحلف الممانع" الذي كلّفك تأليف الحكومة الانكباب على الملف المالي والنقدي والمصرفي تدرك أن المهمّة ستكون عسيرة. والأدوات المتاحة ضعيفة. إذ يتطلب وقف الانهيار المالي – النقدي والمصرفي عونًا ماليًا كبيرًا وفوريًا، لن يتوفر من خارج قنوات عربية أولًا، ودولية بدرجة أقلّ وبإيعاز من الدول الغربية الواقعة في صراع مع طهران يدفع لبنان ثمنه.

الهاجس الكبير
لفتنا نفي رسمي من رئاسة الجمهورية قرارات قيل أن مصرف لبنان سيعلنها في وقت قريب إثر اجتماع رئيس الجمهورية وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. بينما المطلوب العكس. الناس ينتظرون أي اشارة في هذا المعنى تطمئنهم إلى ودائعهم في المصارف. الصمت يعزّز المخاوف من أن القضية أكبر من أزمة سيولة. فأزمة السيولة تتكفلها المصارف المركزية، خصوصًا عندما لا يكون المصرف يعاني أزمة ملاءة، فتمدّه المصارف المركزية بالسيولة. وتتكفل لجنة الرقابة على المصارف بدرس وضع المصرف وتسليفاته وتطلب تسوية ديون مشكوك في تحصيلها أو رديئة اذا ما اكتشفت ثُغرًا في هذا المجال. وتلزمه بعدم توزيع أرباح، وحمل مؤونات تقتضيها سلامة المصرف والتزاماته تجاه عملائه. لكن تبدو القضية أكبر من ذلك.

لتؤلفّ الحكومة وتضع خطة إنقاذ من مرحلة أولى لمدّ اليد إلى الغريق. لكننا في ضوء المعطيات السياسية الراهنة الاقليمية والدولية، وما يحصل في العراق وايران، بتنا نخشى أن تكون مهمّة هذه الحكومة إغراقية وليست إنقاذية، للبدء بعد تأليفها في تحميل الثورة مسؤولية عدم الاستقرار واستخدام العنف. والاحتجاجات من طابع طائفي ومذهبي لخرق الثورة من داخلها في محاولة لوأدها. هذه ليست حكومة مستقلين إذا تألّفت. ولا حكومة اختصاصيين ومثقفين. إدرسها جيدّا حسّان دياب. لم تعتذر عن عدم قبول التكليف. قد تعتذر إلى الشعب بعد التأليف.