"الإرهاب" الاقتصادي والاجتماعي

عصام الجردي
الجمعة   2019/12/13
اللبناني يستغيث اليوم جهارة "يا محسنين" (المدن)

هل بقي مسؤول واحد في البلاد يقول للبنانيين ماذا عن يوم غدٍ؟ وماذا ينتظرنا بعد غدٍ؟ لم يعد اللبناني يتطلع إلى الخلاص من الكارثة بمقدار اللطف فيها. لا ندري ما إذا واجهت البلاد والناس ما يواجهونه الآن حتى في ظل الاستعمار الفرنسي. المجاعة حصلت أيام الاستعمار العثماني. اللبناني يستغيث اليوم جهارة "يا محسنين". يعرّف عن نفسه في وسائل الإعلام ورقم هاتفه طالبًا الطعام والدواء والملبس وأوَد عائلته. وكالمستجير من الرمضاء بالنار، إذ ينشد عونًا مما تبقّى من شبه سلطة. ذاهبون إلى سيناريو فوضى كاملة على هذا المنوال.

متى يّعلن الإعسار؟
وبينما يستمر خفض تصنيف لبنان السيادي، وسط شبه قناعة المؤسسات المالية الدولية إننا ذاهبون إلى حال الإعسار والتوقف عن الدفع، يستمر الساقطون سياسيّاً وأخلاقيًا في صراعاتهم على سلطة باتت رُمةّ هزيلة تتنكّر لآلام شعبها ومستقبل وطنها، وما انفكّت تدفع نحو الخراب الشامل وتفسخ المجتمع والكيان. والمطلوب واحد. حكومة من بيان وزاري إنقاذي يعلن صراحة التزامها سيادة لبنان، وسلطة الدستور والقوانين والمؤسسات الشرعية على الأراضي اللبنانية. وخطة إصلاح مالي واقتصادي واجتماعي، مبرمجة بروزنامة مواقيت للتنفيذ. من يسمّى بنتيجة الاستشارات النيابية (المفترضة) يؤلف حكومة كما يراها هو. ليتبنى أعمالها ويتمكن من الدفاع عنها، وليتحمّل رئيسها وأعضاؤها مسؤولياتهم أمام مجلس النواب. ولتستعدّ المعارضة لممارسة دورها في نظام برلماني ديموقراطي يقول الدستور. حكومات "النفاق الوطني" على قاعدة اقتسام الإدارة العامة، وسرقة أموال المشاريع وحقوق الخزانة، والارتهان إلى الخارج الإقليمي والدولي، هي التي نجني حَصادها الآن انهيارًا ماليًا ونقديًا واقتصاديًا، وتهديدًا مباشرًا لكيان المجتمع والدولة. نريد هيكل حكومة لالتقاط الأنفاس ووقف الانهيار وملمح ثقة. إذا كان سعد الحريري ليس مؤهلًا لتأليف حكومة اختصاصيين كما يقول، فليكلّف غيره ويتحمّل مسؤولياته مع أعضاء حكومته. ولتستعدّ المعارضة للقيام بدورها.

كل لحظة تمرّ بلا حكومة تدفع بسيل الانهيار. تصريح وزير المال علي حسن خليل عن تراجع إيرادات الخزانة في الربع الرابع من 2019 بواقع 40 في المئة، لم يلق ردّ فعل من مسؤول. ربما لأنهم يدركون ما يفعلون. ولا اكترث مسؤول للنمو السالب هذ السنة. لم يعد خفض النفقات كافيًا لوقف ارتفاع الدين إلى الناتج المحلي فوق 152 في المئة. المؤشر المعياري الأساس لخفض التصنيف وتصنيف المصارف، إلى جانب المعيار السياسي في دولة فاشلة. يكفي الركود الاقتصادي لارتفاع المؤشر. لقد انتهى الأمر. نحن في حال إعسار مالي غير معلن، وتهديد نقدي مفتوح. إفسحوا في المجال بلا دجل لتأليف حكومة لتفادي الإعسار المصرفي والكارثة الكبرى. لبنان يحتاج إلى المال فورًا. وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، قال بعد اجتماع مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان، وحدها حكومة الإصلاح "ستتيح لجميع المشاركين في الاجتماع وسواهم، أن يقوموا بتعبئة الجهود ليقدموا إلى لبنان كل الدعم الذي يحتاج إليه".

المؤشرات الخطرة
المؤشرات الاجتماعية تنذر بالكوارث. صرف جمعي وفردي من المؤسسات التي بقيت عاملة. المستشفيات تستغيث لاستمرار خدماتها بعد شهر. الصناعة والزراعة أيضًا، بعد انسداد أبواب التحويلات المصرفية لاستيراد المستلزمات الاستشفائية، والمواد الأولية لمدخلات الصناعة، والتسميد والأدوية للزراعة. واشتباك الذمم المالية إلى مزيد من التعقيد على النحو الذي يعطّل بالقوة  القاهرة كل العقود المتبادلة. وتعليق المهل بات ضرورة وحاجة كي لا يؤدي الاشتباك إلى مفاعيل يصعب التحكم بنتائجها. توسّع فجوة التنابذ المجتمعي، وترفع حجم التوتر الاجتماعي. قال أصحاب شركات الأعمال إنهم لن يسددوا ضرائبهم إلى الخزانة. يؤثرون عليها سداد أجور عمالهم ورواتب موظفيهم. لكن الذي بقي منهم في العمل وليس على لوائح الصرف. أخطر ما في القرار ليس عصيانهم المالي على سلطة مالية – سياسية غير موثوق بها فحسب، بل الفوضى العارمة في هذا المجال. إذ في تعطيل القوانين بالأمر الواقع، لم يعد ممكنًا التمييز بين الصرف الاقتصادي المسوّغ، وله شروطه وتبعاته للمصروفين من العمل، وبين الصرف العسوف بحجة الأمر الواقع. في الحال الأولى على صاحب العمل إخطار وزارة العمل مسبقًا بالصرف لأسباب اقتصادية. وللوزارة أن تطّلع على ميزانية المؤسسة لسنوات ثلاث سابقة للتيقن من مسوغات الصرف. وحقوق العمال والموظفين تبى دينًا ممتازًا على سائر الدائنين والالتزامات. وفي حال الصرف العسوف للمصروف تعويضات بموجب الفقرة – و – من المادة 50 من قانون العمل التي تصل إلى تعويضاتها إلى اثني عشر شهرَا على الأجر الأخير. وزارة العمل لا تقرر في هذا الشأن بل محاكم العمل ومجالس العمل التحكيمية. أي قضاء العمل. والمصروف لا يملك أتعاب المحاماة. وبتّ الدعاوى يستغرق سنوات. وإلى حين ذلك، لا أحد يملك معلومة عن قيمة التعويض بسعر صرف الليرة الثابت. وهو عرضة للتآكل يوميًا، وبالتضخم والقوة الشرائية. أي كمية السلع والخِدمات التي كان يمكن شراؤها يوم صرفه وقبل اللجؤ إلى المحاكم.

هذا الواقع الخطر ينطبق على مكان أكثر دراماتيكية يتعلق بتعويضات المضمونين في فرع نهاية الخِدمة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. هناك الطامة الكبرى. حذرنا قبل سنوات من الثقب الأسود في الصندوق. لا معلومات واضحة عن وضعه المالي. يُستجرّ من فرع نهاية الخِدمة إلى فرع ضمان المرض والأمومة خلافًا للقانون الذي يلحظ استقلال الفروع ماليًا بعضها عن البعض الآخر. الأمر ينطبق على عدم ربط تقديمات الأجراء وتعويضاتهم بسداد اشتراكات أصحاب العمل. على إدارة الصندوق إلزامهم سداد الاشتراكات. من يتكفّل سداد الديون المستحقة عن سنوات ماضية؟ وسدادها من المؤسسات التي تقفل اليوم بدعوى الظروف الاقتصادية ومن دونها. لم يحترز الصندوق لأسعار الصرف كي يحفظ حقوق الأجراء سنوات كدّهم وتعبهم يوم الشيخوخة. مصرف لبنان منع الصندوق من حَمل مراكز قطع بالعملات الأحنبية. ولا الدولة المدينة بنحو ثلاثة مليارات دولار أميركي تسدد اشتراكاتها عن أجرائها الخاضعين لقانون العمل. ولا تسدد بحسب القانون 25 في المئة من نفقات فرع المرض والأمومة. مجتمع الضمان الاجتماعي من نحو مليون و300 ألف مواطن. يضاف إليهم مئات آلاف العاطلين من العمل الآن. والفريقان من دون تغطية صحية. هؤلاء وغيرهم متروكون "لله يا محسنين" يواجهون أقدارهم. هل يدرك من بقي مسؤول ورجل ماذا يعني كل ذلك. لا أحد يسمع ويتعظ. هذا "إرهاب" اقتصادي واجتماعي!