هُوة الدَين والمِطرقة السياسية

عصام الجردي
الإثنين   2019/01/28
لم نولِ أهمية لوجهة إنفاق الدين (Getty)

تتقطّع سبل الخروج من فخ الدَين العام بالمطرقة السياسية. ما عدنا نصدق أن قضية تأليف الحكومة وقفاً على حقيبة وزارية لـ"لقاء تشاوري"، استُجمع قطعاً من تكتلات نيابية، سيكون تمثيلها وازناً في أي حكومة. حتى إذا حُسمت الحقيبة، رحنا نبحث عن مكان الوزير وتموضعه ثلثاً معطِلاً أم ضامناً لا فرق. وإذ بدا أن التموضع ليس ذا شأن، عدنا إلى توزيع الحقائب من جديد! وينوء البلد بأزمة الدين وفوائده. نستمر في الإنفاق بلا موازنة. ونبحث عمّن يمول خيباتنا والفشل والفساد.

لو سلمنا جدلاً بثقل الدين العام ومخاطره على مركز الدولة المالي، وعلى الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، بيد أننا لم نولِ أهمية لوجهة إنفاق الدين. وهذه قضية لصيقة به. فالبلد المدين يستفيد عندما تكون أسعار فوائد الدين الحقيقية مخفوضة. ففي هذه الحال يؤدي الاستخدام الرشيد للدين، عبر توظيفه في استثمار مشاريع حيوية ومنتجة، لا سيما في البنى التحتية وجودة الخدمات وكفايتها، إلى تعويض تكلفة الدين. ويتيح الدفع بوتيرة النمو الاقتصادي في ظروف سياسية ملائمة. الذي حصل عندنا مغاير تماماً. فقد فوتنا فرصة تراجع الفوائد الدولية الحقيقية، التي تراجعت بحدة  منذ 2009 في إثر الأزمة المالية 2008. علاوة المخاطر السياسية وعدم الاستقرار الحكومي، التهمت فرصة الفوائد الحقيقية المخفوضة في الخارج. ورتّبت هوامش فوائد إضافية على الدين الخارجي، كبيرة بكل المعايير. وكذلك سعر تأمين السندات سندات اليوروبوندز. وبقينا في أسر النفقات الجارية على الرواتب والأجور وخدمات الدين، التي تأكل نحو 75 في المئة من إنفاق الموازنة. كانت النتيجة ائتلاف العوامل السالبة على المالية العامة من جهة، وعلى الاقتصاد والوضع الاجتماعي من جهة ثانية. فجاءت وتيرة نمو الدين أعلى بكثير من معدل النمو الاقتصادي. وبالعلاقة الطردية بين الإثنين تجاوز الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 151 في المئة. صحيح أن النسبة على الورق هي الثالثة عالمياً بعد دين اليونان واليابان. لكن يمكن اعتبارها الأسوأ في الواقع. فاليونان تمكنت من تعديل مسار الدين في آب 2018. وخرجت من كنف "الترويكا"( المفوضية الأوروبية والمصرف  المركزي الأوروبي وصندوق النقد النقد الدولي ) الدائنة الصلبة التي أمدتها بالقروض، قبل أن تستنفد نحو 3 مليارات دولار أميركي الدفعة الأخيرة من برناج الدين. أمّا مقارنة لبنان بدولة كاليابان فغير سوية أساساً وبكل المعايير. وهي خرجت بدورها من الركود، وبدأت مرحلة جديدة من النمو المستدام بعد نمو متباطئ.

فمن يدير اللعبة السياسية في لبنان، لم يدرك بعد تبدّل حزمة من العوامل التي أدّت إلى تصنيف لبنان السيادي في طائف(C)  ومندرجاتها المؤدية إلى (D)، وحالة الإعسار المالي والتوقف عن سداد التزامات الدولة. أولاً، عادت الفوائد الحقيقية الآن لتأخذ مكانها الطبيعي في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، بعد الخروج من سياسات التيسير النقدي. وهذا شأن لا يمكن لبنان التأثير فيه كالقانون الطبيعي. ويؤدي ذلك إلى أن يكون لبنان عرضة لارتفاع تكلفة الفوائد. وثانياً، إن تصحيحات السوق وتقلبات أسعار الصرف الخارجية الحادة يمكن أن تؤثر بدورها على خيارات المستثمرين في أوراق الدين السيادي الخارجية. ثالثاً، تعديل سالب في مسار التدفقات النقدية الخارجية. فحسب تقديرات مصرف لبنان بلغت تحويلات اللبنانيين من الخارج في النصف الأول 2018 أكثر من 3.4 مليارات مليار دولار أميركي. بالتحليل المنطقي، جاءت تلك التحويلات نتيجة إحياء الأمل بالانتخابات النيابية. وبحكومة بعد الانتخابات لم تؤلّف حتى الساعة. لا توجد أرقام بعد عن التحويلات في النصف الثاني من السنة. وقد تكون تراجعت وتيرتها بعد انقلاب التوقعات السياسية، وتوسع فجوة الثقة المصدوعة. بيد أننا نفتقد منذ سنوات التدفقات الاستثمارية في الاقتصاد، المولدة للنمو وفرص العمل. إلى جانب شحّ الاستثمارات الداخلية. أما رابع تلك العوامل السالبة وأشدّها سلبية، الانقلاب في مسار التحويلات من الداخل إلى الخارج. وهذا أسوأ ما يمكن أن نواجهه في الظرف الراهن. لاسيما على صعيد سياسة تثبيت سعر الصرف، التي تسستنزف موجودات مصرف لبنان، التي جمعها بتكلفة باهظة من المصارف والمدخرات الوطنية.

أرقام الموجودات الخارجية الصافية لدى المصارف ومصرف لبنان، تظهر بوضوح تحويلات إلى الخارج. خصوصاً وأن مصرف لبنان بالتنسيق مع وزارة المال بعد التصنيف السيادي السالب، مستمران في سداد الفوائد على الدين السيادي في مواعيدها. ورفع الفوائد على الدين الداخلي بالليرة، الذي ما زالت المصارف تجدده بالضرورة لاستمرار الدولة كياناً مالياً. لكن المصارف أيضاً مكشوفة على دين دولة منقوصة السيادة. خفض تصنيف ثلاثة من أكبر المصارف اللبنانية جاء نتيجة لخفض تصنيف الدولة السيادي. وإلى جانب الأثر المعنوي عليها، سترتفع أيضاً تكلفة قروضها والتسهيلات التي تحصل عليها من الخارج. وبالتالي ستكون عينها على تعزيز النسب المتعارف عليها لأموالها الخاصة، واحتياطاتها، وسيولتها الجاهزة، لدرء استخدام تصنيفها في غير مكانه الطبيعي. وكل ذلك يؤثر على أرباحها وعلى تسليفاتها لعملائها وللاقتصاد. إذ تتجاوز ميزانيات المصارف الثلاثة المجمّعة بكثير حجم الناتج المحلي الإجمالي. وهي في رأس لائحة المصارف العشرة الأولى في لبنان.

الذين يغلّبون مصالحهم السياسية الضيقة على مصالح الاقتصاد الوطني، بوقاحة وسلوك أخلاقي لا نظير له، ويمنعون تأليف حكومة جديدة وإعمال المؤسسات الدستورية، إنما يدفعون البلاد إلى التهلكة. وبتنا نخشى حتى بعد تأليف الحكومة، أن تكون عاجزة عن مجرد تعويض خسائر استئخار تأليفها. فسمعة لبنان المالية باتت مرتبطة بسلوك الطغمة السياسية. وأوراق الدين السيادية تتأرجح كل يوم على وقع سلوكها ومواقفها. المبادرة القطرية اليتيمة عملياً تجاه لبنان في القمة العربية التنموية والاقتصادية، للاكتتاب في سندات الدين السيادية بواقع 500 مليون دولار أميركي، سيكون أثرها الفعلي أن تحصل في أسواق الأوراق اللبنانية وبفوائدها. لأنها ستحسن سعر الأوراق، وتخفض العائد والفوائد على حزمة كبيرة من الأوراق الأخرى، بدأ عرضها على نحو جائر بعد تراجع الثقة بلبنان. هذه مشكلة تمويل الدولة اللبنانية حالياً. وبقي عليها التنسيق مع الحكومة القطرية على توقيت الشراء على دفعات أو دفعة واحدة، تبعاً لتقلبات الأسواق لتخفيف الضغط على أوراق الدين اللبنانية. ومردود ذلك على لبنان أهم من مردود الاكتتاب بفوائد مخفوضة من خارج الأسواق بالاتفاق بين الحكومتين اللبنانية والقطرية.