"السترات الصفر".. خمسة أسباب اقتصادية

منال نحاس
الأحد   2018/12/09
اتساع الهوة في فرنسا، شأن غيرها من الدول الغربية، بين مواطنيها الأثرياء والفقراء (Getty)
خربشات غرافيتي سوداء على قوس النصر الفرنسي، اقتلاع عين تمثال، إطارات محروقة وقنابل مسيلة للدموع وسيارات سائخة مركونة على الطرق: هذه الصور تسري على الانترنت وشاشات التلفزة وتأسر خيال شباب يحلم بثورة "حقيقية" و"فرنسية"، وشباب يرفع مطاليب خدماتية وعدالة اجتماعية في البصرة وغيرها. وليس "المستضعفون في الارض" وحدهم من يحتفي بحركة السترات الصفر (أو الصفراء على ما تكتب الصحف وتقول التلفزيونات) الفرنسية، فاليمين المتطرف الأميركي يحتفي بها، ويرى أنها تثبت صواب سياسات دونالد ترامب المحلية (مناوأة المهاجرين والعولمة) والدولية (الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ المبرم في 2015). ولكن أوجه الشبه بين سياسات ترامب وسياسات ماكرون ضعيفة، على رغم أن الأول كما الثاني، قلّص الضرائب على الأثرياء. فالرئيس الاميركي كما غيره من قادة الحركة الشعبوية الجديدة في المجر وبولندا وعلى قدر أقل في بريطانيا، يقبلون على الرأسمالية النيوليبرالية، في وقت يعدون ناخبيهم ببعث الاقتصاد المحلي، وانتشاله من براثن المستثمرين الأجانب والاتفاقات الدولية والنظم المالية الدولية. وليس اليمين المتطرف الأميركي يتيماً في محاولة نسبة احتجاجات السترات الصفر إليه، في وقت لا ينتمي المحتجون إلى أحزاب سياسية مؤطرة. فبعض ممثلي اليسار المتطرف الفرنسي كما اليمين المتطرف، شاركوا في مسيرات السترات الصفر. وتدور ظنون بعض المراقبين على أن أنصار اليمين المتطرف وزعيمته مارين لوبن، ساهموا في تحويل التظاهرات السلمية إلى تظاهرات عنيفة السبت الماضي.

واندلعت التظاهرات هذه في عدد من المدن الفرنسية، منها العاصمة باريس، ومدن أخرى متوسطة الحجم منها تولوز وبوردو ونيس وستراسبورغ وبوي أنفيلييه، إثر فرض الحكومة زيادة نحو 25 سنتاً على سعر غالون الوقود، وكان من المفترض أن يبدأ العمل بالضريبة هذه في كانون الثاني المقبل، ولكن رئيس الوزراء الفرنسي، إدوار فيليب، أعلن إلغائها لتهدئة التظاهرات قائلاً ألا ضريبة تقوم لها قائمة إذا ما هددت "وحدة الأمة".

الدواعي الاقتصادية..
والتظاهرات هذه ليست من بنات دواع اقتصادية وحسب، بل هي من ثمرات غضب تنفخ فيه سياسات نيو ليبرالية رجحت كفتها في الغرب، إثر الأزمة المالية في 2008، وما تلاها من سياسات تقشف رجحت كفة إنقاذ المصارف الكبيرة وتركت الأفراد لمصيرهم (الإفلاس وخسارة البيوت في أميركا) وللسياسات التقشفية التي رفع لواءها الاتحاد الأوروبي، وهي كذلك من بنات أطوار المجتمعات الغربية اليوم (انهيار البنى التقليدية التمثيلية من أحزاب ونقابات، تنقيل الوظائف مع العولمة، وتشريع الأسواق المحلية على المنافسة الدولية...) . وتعدد "نيويورك تايمز" 5 أسباب اقتصادية وراء نزول الفرنسيين إلى الشارع.

1- اتساع الهوة في فرنسا، شأن غيرها من الدول الغربية، بين مواطنيها الأثرياء والفقراء. فـ20 في المئة من الفرنسيين ممن هم في أعلى الهرم يجنون حوالى خمسة أضعاف ما يجنيه 20 في المئة ممن هم في أدنى الهرم أو قاعه. وحصة 1 في المئة من أغنى الفرنسيين تفوق 20 في المئة من الثروة الاقتصادية. ويتقاضى نصف العمال الفرنسيين أقل من 1700 يورو (حوالى 1930 دولاراً)، وهو متوسط الدخل إثر اقتطاع الضرائب. وكثير من أصحاب الستر الصفر يحتجون على صعوبة تسديد الإيجار وإطعام عوائلهم و"تدبير" سبل العيش مع ارتفاع التكاليف. والحال لم تكن على هذا القدر من العسر في الماضي القريب. فإثر الحرب العالمية الثانية، ارتفع مستوى العيش والدخل في فرنسا أثناء السنوات الثلاثين المجيدة. وواصلت رواتب أصحاب راتب الحد الأدنى والمتوسط الارتفاع إلى مطلع الثمانينات جراء اتفاقات ناجحة فاوضت عليها النقابات العمالية.

2-  نمو اقتصادي... ضعيف

على رغم أن فرنسا تتربع في مرتبة ثالث اقتصاد أوروبي بعد بريطانيا وألمانيا، أصيب الاقتصاد الفرنسي بالكساد طوال حوالى عقد مع اندلاع أزمة الديون في أوروبا، ونسبة النمو الاقتصادي لا تزيد عن 1.8 في المئة سنوياً.

3-  البطالة أكثر من 9 في المئة

معدلات البطالة في فرنسا تترواح بين 9 في المئة و11 في المئة منذ 2009، بعد أن ألمت أزمة الدين العام بأوروبا، على وقع الأزمة المالية في 2008. وعلى رغم انخفاض معدل البطالة إلى 9.1 في المئة بعد أن كان 10.1 في المئة، حين بلغ الرئيس إيمانويل ماكرون السلطة، لا يزال المعدل هذا يفوق مرتين نظيره في ألمانيا. ووعد ماكرون بخفض البطالة إلى 7 في المئة قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2022، ولكن الوعد هذا يبدو أثراً بعد عين. وسعى ماكرون إلى تنشيط أو تحريك عجلة الاقتصاد الفرنسي، وطالب في العام الجاري بمراجعة شاملة لقانون العمل "المتصلب"، لمنح أصحاب العمل سبل التوظيف والطرد، والانعتاق من قيود تثني صاحب العمل عن التوظيف من جديد. وقيدت تعديلات ماكرون قدرات النقابات على عرقلة التغيير، وأجازت إبرام اتفاقات فردية بين الشركة أو المصنع مع العمال. وهذه الاصلاحات استقطبت شركات مثل "فايسبوك" و"غوغل" إلى فرنسا. ولكنها أغضبت العمال الذين يرون أن الاصلاحات هذه تجردهم من حقوقهم العمالية المكتسبة، وترجح كفة الأعمال الكبيرة.

4-  تقليص الضرائب على الأغنياء

في سياق خطة تحفيز الاقتصاد، قلص ماكرون الضرائب على أثرى المكلفين في السنة الأولى من ولايته، وأنشأ ضريبة ثابتة غير متصاعدة على الدخل. وركن تقليصات ماكرون الضريبية، وهي أكثر ما نفخ في غضب المحتجين، هو إلغاء شطر راجح من الاقتطاعات الضريبية على الأسر الغنية. والاقتطاعات هذه قلصت عوائد الدولة الفرنسية، 3.2 بليون يورو هذا العام. على خلاف المرتجى، لم تثبت نجاعة الاقتطاعات هذه في تحفيز الاقتصاد وجذب الاستثمارات. ولكنها أدت إلى إظهار ماكرون بصورة المنحاز إلى الأثرياء. وفي وقت تمتع أصحاب أكثر المداخيل باقتطاعات ضريبية، هبطت القدرة الشرائية في أوساط أكثر الأسر في أدنى أو قاع السلم الاقتصادي، أي في أوساط 5 في المئة من الأسر. وشطر واسع من الطبقات الوسطى مرت عليها الاقتطاعات مرور الكرام، فلم تكسب ولم تخسر.

 ولم يخف الاستياء الشعبي ماكرون حتى قبل اندلاع احتجاجات الستر الصفر. ففي موازنته للعام 2019، أعلن إعفاءات مالية قدرها 6 بلايين يورو يستفيد منها أصحاب الدخل المتوسط والأدنى.

 وتشير استفتاءات الرأي إلى أن ثلاثة أرباع الفرنسيين يؤيدون السترات الصفر. ومدار أسئلة كثيرة على مقدار الألم النازل بالمحتجين. فالفرنسيون تحميهم شبكة أمان اجتماعي هي الأكثر سخاء في العالم، وثلث ناتج فرنسا الاقتصادي يذهب إلى الحماية الاجتماعية، وهذه نسبة تفوق نظيرها في الدول الأوروبية كلها. فعلى سبيل المثل، أنفقت فرنسا في 2016، 715 بليون يورو على العناية الصحية، والتقديمات العائلية وتقديمات البطالة وغيرها من سبل الدعم. فالفرنسيون يسددون نسبة ضرائب أعلى من نظيرها في أوروبا. وتفرض فرنسا ضريبة قيمة مضافة قدرها 20 في المئة على شطر واسع من السلع والخدمات. ومثل هذه الضريبة "تؤلم" الفقراء، ولا تؤثر في الأثرياء.

أزمة القدرة الشرائية
ولكن يبدو أن "نيويورك تايمز" فيما تعتبره السبب الاقتصادي الخامس، تبلغ طريقاً مسدوداً، ويبقى القارئ معلقاً في الحيرة. فالأزمة ليست اقتصادية وحسب، ولها جوانب اجتماعية وسياسية. ولم يكن الفقراء من سكان الضواحي الفرنسية عصب المحتجين، وهم لم يُقبلوا على المشاركة في التظاهرات، على ما تنبّه "لو موند" الفرنسية في خبر وسمته بـ"الضواحي تتردد في الالتحاق بحركة السترات الصفر". وترى الباحثة جوليا كاجيه (لوموند 4 كانون الأول الجاري) أن أزمة السترات الصفر مردها إلى أزمة القدرة الشرائية: تراجع القدرة الشرائية لمن هم في أدنى السلم الاجتماعي وزيادتها 20 في المئة في 0.6 في المئة ممن هم الأكثر ثراء مع تغير طبيعة الضرائب والرسوم. فالضرائب "الماكرونية" ليست تصاعدية ولا تساهم في إعادة توزيع الثروات، بل هي ضرائب "رجعية" يترتب عليها تراجع قيمة ما تسدده الفئات الأعلى. وليس الفقر محرك السترات الصفر. فالشعور بالمهانة والظلم كان رافد هذه الحركة. وثمة وجهان متناقضان للحركة هذه: فمن جهة، يجمع المشاركون فيها على لفظ الضريبة، ويرفضون من جهة أخرى غياب المساواة أمام الضريبة. فكأنهم يقرون بدورهم كمكلفين أو مسددي الضرائب، ويدعون إلى مساواة في الضريبة.