الأمرَكة على أنقاض العولمة

عصام الجردي
الإثنين   2018/12/31
إذا تمكّن الرئيس دونالد ترمب من الفوز بولاية ثانية ستُكتب نهاية عصر العولمة (Getty)
سيدوِّن العالم أن سنة 2018 كانت التحدي الأكبر للعولمة. لو تمكّن الرئيس الأميركي دونالد ترمب من الفوز بولاية ثانية في انتخابات الرئاسة في 2020، ستكتب نهاية لعصر العولمة. توازن القوى العالمي السائد في الاقتصاد والدفاع والتكنولوجيا الحديثة. ونذهب إلى عصر جديد من الشعبوية العنصرية، واليمين القومي المتطرف في أوروبا، الذي بدأت مخالبه تتمدد إلى الحكم في أكثر من بلد في القارة. والاتحاد الأوروبي يدنو من إعلان فشل الأورَبة مع اقتراب خروج بريطانيا من الاتحاد. وإعلان مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل عزوفها عن رئاسة الحزب الديموقراطي المسيحي، وبالتالي عن منصب المستشارة في انتخابات 2021، ووصول اليمين المتطرف إلى الحكم في كل من إيطاليا والنمسا.

على الضد من ريغان - تاتشر
الولايات المتحدة هي التي خطّت كتاب العولمة بمفهومها الشامل. صُلبها كان الاقتصاد والمال والتجارة. المفارقة أن قوانين العولمة ومؤسساتها الدولية، التي ترسخت في بداية ثمانينات القرن الماضي، مع الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان ورئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر، وتسيدت النظام العالمي، يتم الانقضاض عليها من بلدي المنشأ. الولايات المتحدة، من خلال نهج ترمب المعادي لاتفاقات التجارة الحرة ومنظمة التجارة العالمية، والمحابي سياسة التقوقع وتسوير حدوده الجنوبية مع المكسيك. وبريطانيا، بالعودة عن الشراكة الأوروبية والسوق المشتركة، ووقف مسيرة الاتحاد الأوروبي نحو مزيد من الاندماج والانفتاح بين دول القارة. والجامع المشترك بين البلدين العداء للأجانب والمهاجرين.

من الصعب التكهن بالنظام العالمي البديل، في الظروف الدولية الراهنة. السؤال إلام سيقود هذا النهج لو كتب له النجاح، غير الفوضى والنزاعات وعودة الحرب الباردة. كنا اعتقدنا في مقالة سابقة، أنه لو مضى ترمب في تنفيذ روزنامة وعوده في الانتخابات الرئاسية، فلن يتمكن من استكمال ولايته. ستقف المؤسسة الأميركية العميقة الـ"إستبلشمنت" في وجهه، لأسباب تتصل بمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية. وتتصل بـ"الكتاب الأميركي" الذي خطّته مكونات تلك المؤسسة. من وول ستريت، ومجمّع الصناعات العسكرية المزدوجة الاستعمالات، والخارجية ووكالات الأمن القومي. ورغم فداحة الملفات التي فُتحت في وجه ترمب، التي تفوق خطورتها فضيحة ووتر غيت، التي أطاحت الرئيس ريتشارد نيكسون في 1972، فقد أبدى ترمب مقاومة فظيعة حتى الساعة. وماضٍ في حربه المفتوحة في الداخل والخارج على الأقربين والأبعدين. يترجل وزراء ومسؤولون كبار من إدارته. أو يُرغمون على الاستقالة. في القضاء، والعسكر، والمال والاستخبارات. لا يخلو شهر واحد من هذا المشهد السوريالي. يعادي وسائل الإعلام، الضلع المساند مع مراكز البحوث المؤسسة الأميركية  العميقة. وقد وصل الأمر على خلفية النزاع مع الكونغرس على السور مع المكسيك إلى إغلاق عدد كبير من الدوائر الحكومية التي نفدت مخصصاتها المالية. هناك نحو 350 ألف موظف فدرالي يعملون الآن بلا رواتب. بداهة ومنطقاً، أن الرجل المتعنت، الذي يوصف بكل النعوت القبيحة، له في بلاده مناصرون ومؤيدون، يرون رؤيته ويقولون قوله.

ترامب يحصد إرث أوباما
دعونا نعترف أن خطاب ترمب الشعبوي إلى حدود الكراهية والتعصب، أيقظ جمهوراً عريضاً في الولايات المتحدة كابد نتائج أزمة 2008 المالية والركود والبطالة. ولا يجادل اثنان في أنها كانت نتيجة العولمة، التي أطلقت مارد السوق الحرة من كل القيود، وخرجت عن الرقابة والسيطرة ولحقت بأوروبا وآسيا والعالم بأسره. الرئيس السابق باراك أوباما الذي واجه الأزمة لحظة دخوله البيت الأبيض في 2009، هو الذي الذي أخرج البلاد من الأزمة. النمو الاقتصادي الذي تنعم به الآن، ومستويات البطالة المخفوضة مرة أولى منذ أكثر من 55 سنة 3.7 في المئة، كانت نتاج أوباما وليس ترمب. بينما صانعو الأزمة كانوا من أصدقاء ترمب من الليبراليين الجدد، وأنصار مدرسة شيكاغو وميلتون فريدمان. هؤلاء دفعوا بالعولمة إلى نقطة الصدام مع الحقائق الاقتصادية، ودفنوا نظريات جون مينارد كينز، الذي أبقى حدوداً لتدخل الدولة في الاقتصاد. أوباما تجاوز كينز إلى تأميم غير مسبوق في دولة اشتراكية، حين تملك أسهم الشركات الأميركية العملاقة لقاء تريليونات من خزانة مكلفي الضريبة ومجلس الاحتياط الفدرالي، درءاً لانهيار الدولة الأقوى والاقتصاد العالمي. ترمب هو الذي وظّف سياسياً ما صنعه أوباما. وتجاوزه حين أغدق الاعفاءات الضريبية على الأثرياء والشركات الكبيرة، وبدأ بتعديل قانون المستهلك والإصلاح المالي، الذي وضع قيوداً على عمليات صناديق التحوط والمصارف الاستثمارية وبيوت العقارات والمرابين. وهناك خوف الآن من أزمة عالمية أخرى في الطريق، أميركية المنشأ أيضاً، نتيجة تجاوز العجز المالي 100.5 مليار دولار أميركي في تشرين الأول 2018 لقاء 63.2 ملياراً الفترة نفسها 2017. والدين العام الاميركي فوق 21 تريليون أقل بقليل من 100 في المئة إلى الناتج المحلي. الرسوم الحمائية على التجارة مع الصين وسّعت العجز التجاري الأميركي في تشرين الأول 2018  إلى 55.4 ملياراً. الأعلى منذ تشرين الأول 2008. العجز الأكبر كان مع الصين رغم الرسوم الجمركية. في اختصار، لم يجنِ الأميركيون غلة اقتصادية من صنع ترمب. فهل حلّ الخطاب الترمبي الشعبوي لدى الجمهور الأميركي محل اهتماماته الاقتصادية والرعاية الصحية والاجتماعية؟

الارتداد إلى "الوطنيات"
وضع العولمة على الضفة الأخرى من الاطلسي أسوأ بكثير. تغذى بقوة من خطاب ترمب، ومواقفه العدائية أحياناً كثيرة من قادة الاتحاد الأوروبي، كمثل "يجب أن تسددوا ما عليكم لحلف الناتو". و"نحن نحميكم". على غرار ما يهزّئ بعض قادة العرب. في أوروبا كان أثر الهجرة والمهاجرين ثقيلاً. وأعاد تركيب المنظومات السياسية على القوانين الوطنية وليس الأوروبية. بالإضافة إلى العمليات الإرهابية، والمواقف الشعبوية المناهضة للعولمة، يُنظر إلى موجات الهجرة سطواً على فرص العمل وتمويل البرامج الاجتماعية الوطنية. أن تخسر ميركل في الانتخابات العامة ولاية بافاريا، ومدينة ميونيخ معقل الحزب الديموقراطي المسيحي، فدلالة مهمة إلى مستقبل المانيا السياسي. ويتعاظم نفوذ حزب الجبهة الوطنية الفرنسي المتطرف على حساب الرئيس إيمانويل ماكرون، تحت ضغط الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. النزعات الانفصالية قوية في بلجيكا، وسكوتلندا، وكاتالونيا الإسبانية. إيرلندا تواجه خطر وضع حدود بحرية مع إيرلندا الشمالية بعد خروج بريطانيا. وبريطانيا بقيت أساساً خارج منطقة اليورو واتفاق شنغن.

منذ 2009 اهتزّت أسس العولمة. التجارة العالمية التي حققت تقدماً، ولم توزع ثمارها بعدالة. واحد في المئة من سكان الكوكب حصدوا نتاج 80 في المئة من الثروة في 2017 تقول منظمة أوكسفام. وأقيمت حواجز في وجه انتقال الأفراد وتفاعل الثقافات وتبادلها. بقي المال حتى مجيء ترمب ينتقل بسهولة إلكترونية فظيعة. الحواجز أقيمت في وجهه أيضاً. وعقوبات وقيود لأسباب سياسية. وأقيمت الحواجز في وجه التجارة. الأمركة الآن بديلاً من العولمة والأورَبة. لننتظر أميركا 2020.