"الثُقب الأسود" يتوسّع

عصام الجردي
الإثنين   2018/12/10
أموال الصندوق يجب أن تدار مالياً بعقلية إدارة المصارف أموال أصحاب الأسهم (علي علّوش)

أثار مقالنا الأخير ( الثقب الأسود فاجتنبوه ) المنشور الإثنين 2-12-2018، حفيظة المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فاستدعى منه بياناً رداً "على بعض وسائل الإعلام"، نحسبه رداً ضمنياً على المقال، بعد طرحه في جلسة مجلس الإدارة لتوضيح الوضع المالي في الصندوق. في البيان، "يهم إدارة الصندوق أن توضح بأن أموال الصندوق هي في عهدة إدارة الصندوق وحدها. وهي مخصصة لسداد التقديمات التي يوفرها الصندوق لمضمونيه فقط، وتستثمر لهذه الغاية وفقا لأحكام المادة 64 من قانون الضمان الاجتماعي، وتوظف وفقاً لآلية اقترحتها اللجنة المالية الخاصة بالصندوق، وأقرها مجلس الإدارة، وصادقت عليها سلطة الوصاية. أي ​وزارة العمل​. وتقتصر هذه التوظيفات حالياً على سندات خزينة ​الدولة اللبنانية​ وودائع مجمدة في ​المصارف​ الخاصة".

لجنة لا تعمل!
لم يشر البيان إلى صلب ما تناوله المقال. وهو بيان الوضع المالي في الصندوق، وحقوق المضمونين، والديون متوجبة الأداء على أصحاب العمل والدولة. اللجنة المالية، أهم جهاز مالي في الصندوق، لا تعمل أساساً منذ سنوات. الفقرة الأولى من المادة 64 نفسها من الضمان الاجتماعي، تنص صراحة وبلا مواربة، على الاستقلال المالي "لكل فرع من فروع الضمان الاجتماعي المنصوص عنها في المادة 7 من هذا القانون بالاستقلال المالي، ويتصرف بموارده الخاصة لتغطية تأديته. ولا يمكن استعمال واردات الصندوق وممتلكاته إلاّ للغايات المحددة في هذا القانون". واضح أن القانون غير نافذ في هذا المعنى. الغَرف من فرع تعويض نهاية الخدمة، لتغطية عجز فرع ضمان المرض والأمومة، أخطر ما يواجه الصندوق. ويضفي غلالة من الغموض على مصير تعويضات فرع نهاية الخدمة. هذه الفجوة الخطرة لا تمثل تهديداً للتعويضات وحسب، بل وفي غياب البيانات المالية التي يفترض أن تضعها اللجنة المالية، يختلط الحابل بالنابل. تتقاعس الدولة نفسها عن سداد 25 في المئة، حصتها المنصوص عنها قانوناً لفرع المرض والأمومة، وسداد اشتراكاتها كصاحب عمل في المؤسسات العامة والمصالح المستقلة، لتغطي العجز من المال السهل، المتراكم حقوقاً، وديناً لأصحابه في فرع نهاية الخدمة. ويعاني الفرع أصلاً نقصاً فادحاً في سداد اشتراكات القطاع الخاص. اللجنة المالية معنية بموازنة الصندوق، وبقطوع الحسابات السنوية وبتوظيفات مجدية لأموال الصندوق خصوصاً في المجالات الاجتماعية. أين هي البيانات المالية للجنة بموجب المادة 64؟

أموال الصندوق
تتوقف الاجابة الجريئة والشفافة عن السؤال، مسؤولية قيام مؤسسات الصندوق بواجباتها لحماية المعلم الوحيد المتبقي ذا طابع اجتماعي في بلد منكوب بالفساد والزبائنية السياسية، وبنظام سياسي خارج الخدمة ودولة هشة. أن تقرر هذه المنظومة هيكل الصندوق الإداري والمالي، فأمر ليس مستغرباً. لا يقوم ضمان اجتماعي في أي بلد من دون تدخل الدولة ودعمها لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والتوازن المالي المستدام.  لكن المشكلة تكمن في تعاطي الحكومات المتعاقبة مع الصندوق مؤسسة عامة لها فيها حق الأمر والنهي. في الإدارة وفي المال معاً في الجانب السالب. أموال الصندوق ليست للخزانة بل للمضمونين وأسرهم. وإرث بعد الوفاة ودين ممتاز. إسهام الدولة المالي هو عملياً إعادة توزيع الثروة وتلطيف الفجوات الاجتماعية في نظام يقول دستوره بالملكية الفردية والاقتصاد الحر. لكن تعويضات المضمونين أيضاً ملكية فردية ووديعة لأجل. من حقوق أصحابها البديهية تبيان وضعيتها بشفافية ونزاهة. نحن في نقيصتين. الأولى أن فلسفة الضمان عندنا القائمة على الرسملة من خلال الاشتراكات، حدّت من عدالة التوزيع. والثانية لكون الدولة نفسها لا تسدد حصتها في النظام. وتقدر ديون الدولة حتى 2017 مقيّمة بالدولار الأميركي بنحو مليار و880 مليوناً. أمّا الثانية، فاستسهال التعويضات لتمويل عجز الدولة المالي في غياب سياسات التوظيف الحميدة. سندات الخزانة واحدة من خيارات توظيفات أموال الصندوق لحظها قانون الضمان. لكنها ليست إلزامية. بل تبعاً للتوظيفات الأجدى للمضمونين ولأصحاب العمل أيضاً فوائد على التوظيفات وعائداً.

أسلوب الطرابيش
لا توجد أهداف واضحة للتوظيفات المالية في الصندوق قابلة للقياس والتوازن المالي لمصلحة المضمونين والمؤسسة. الأولوية لتحقيق الأهداف الاجتماعية والمشاريع المتصلة بها. وزيادة فروع الضمانات وتعزيز الضمان الصحي والاستشفائي. زيادة العائد على التوظيفات المالية من شأنه تمويل الأهداف والمشاريع مع اعتبار المخاطر والجدوى. وحين نتحدث عن موفور لأجال طويلة في فرع نهاية الخدمة، يجب أن يقابله حجم كافٍ من السيولة الجاهزة والدائمة لمواجهة الموجبات. ولا ينفع أبداً تغطية تلك الموجبات حين استحقاقها من اشتراكات مضمونين جدد بأسلوب الطرابيش. بل من رصيد ميومم لكل مضمون في فرع نهاية الخدمة. الجداول الإسمية التي ترسل إلى أصحاب العمل قبل تصفية التعويضات وحسابات التسوية ليست حصيفة وفيها "إنّ"..

أموال الصندوق يجب أن تدار مالياً بعقلية إدارة المصارف أموال أصحاب الأسهم. وتدار اجتماعياً بأهداف العدل وتكبير العائد على التوظيفات وتحقيق المشاريع. هل توظيفات الصندوق في سندات الخزانة في سياق تلك الأهداف؟

التدمير المنهجي
قبل الأهداف والمشاريع. صندوق الضمان الاجتماعي يجسد الوضع الذي تعاني الدولة بكل المعاني. مجلس الإدارة ثلاثي التمثيل ( دولة وأصحاب عمل وعمال ) بولاية منتهية منذ سنوات. المجلس يقرر السياسات ويرسم للإدارة ويتابع ويخطط. ومرسوم التعيين من مجلس الوزراء لا يصدر. وزراء العمل عندنا عاطلون من العمل. اللجنة الفنية أهم جهاز في الصندوق مشلولة منذ ثماني سنوات. على الورق تدقق حسابات الصندوق سنوياً، وتصدر تقارير مالية وإدارية. ولها حق إجراء التحقيق في مسالك العمل، وتضع برامج سنوية واستثنائية وليس على وجه الحصر. هي من رئيس بلا عضوين. وضعها غير قانوني كلياً. لتكتمل حلقة التدمير المنهجي للصندوق، فاللجنة هي التي تودع ديوان المحاسبة التقارير المالية. وللديوان حق الرقابة المؤخرة على الحسابات. لا يحصل. من متطلبات التدمير المنهجي أيضاً، أن الشغور الوظيفي في الصندوق نحو 45 في المئة. أصحاب الحقوق الذين سددوا سلفاً ثمن تقديماتهم يهانون على شبابيك المؤسسة قبل الحصول على التقديمات الصحية.

نطالب أركان الدولة بتبيان الوضع المالي في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بلا تأخير. ونحضّ ممثلي العمال في مجلس الإدارة الممددّ له وغير القانوني واقعياً طالما مستمرٌ في جلساته، على اتخاذ موقف في السبيل نفسه. ونحضّ قيادة الاتحاد العمالي العام أن تكف عن الثرثرة، وتقوم بما يفرضه العمل النقابي النزيه الشفّاف والصلب. نقول هذا ونعلم مرابط خيل هذه القيادة ومعالفها. حقوق الناس في صندوق الضمان الاجتماعي بحجم وطن. "الثقب الأسود" يتوسّع!