"الحقوق المكتسبة" والجمهورية البائسة

عصام الجردي
الإثنين   2018/10/22
من يعطل تأليف الحكومة يفعل فعل المؤامرة وضالع فيها (الأرشيف)

ارتفاع معدلات الفوائد على الدولار الاميركي واحتمال ارتفاع اسعار النفط نتيجة العقوبات الاميركية على ايران في تشرين الثاني المقبل، من شأنهما تأزيم المالية والاقتصاد. العجز المالي المتمادي للدولة أكسب اقتصاد الريع بالضرورة مزيداً من القوة. المسار الذي سلكه الاقتصاد اللبناني على مفهوم الريع جاء مصحوباً بنمو 7% معدلاً وسطاً كما حصل بين 2007 و2010. خدمات الريوع مسوغة وطبيعية متى كانت مكملة للاقتصاد المنتج والنمو الحقيقي في أي بلد. من قروض وفوائد ووساطة وعقارات وخلافها. لكن المشهد كان مختلفاً عندنا على نحو جائر. طغت تلك المنظومة على حصة الاقتصاد المنتج من النمو الحقيقي. بات الاقتصاد المنتج في خدمة منظومة الريع وليس العكس.

كان المشهد منذ تسعينات القرن الماضي محفزاً لهذه الظاهرة المؤذية التي يكمن عمقها الفعلي في استمرار عجز الدولة المالي والحاجة الملحة لتمويل العجز بالدين بالعملتين اللبنانية والأجنبية. ولأن دوام هذه الحال يشكل الضغط الأكبر على سعر صرف الليرة اللبنانية، ويحد من قدرة مصرف لبنان على الدفاع عن سياسة تثبيت سعر الصرف، تمّ اعتماد معدلات فوائد مرتفعة بكل المقاييس، لاستمالة استثمارات الريوع في تمويل العجز والدين من جهة، وتوفير ذخيرة كافية من العملات الأجنبية لسياسة تثبيت سعر الصرف من جهة أخرى. وقد تمكن لبنان من استقطاب توظيفات كبيرة محلياً في أوعية سندات الخزانة بالليرة والعملات الأجنبية، وتوظيفات غير مباشرة مماثلة من العملات الأجنبية من الخارج أفضت حتى 2010 الى فائض محسوس في ميزان المدفوعات وودائع المصارف. وسجلت الأخيرة في 2009 رقماً قياسياً ناهز 22 مليار دولار اميركي. استمد هذا النموذج جوره من حوافز ثلاثة ندُر أن توفرت مجتمعة وفي وقت واحد في أي دولة في العالم. 1- معدلات فوائد تعلو أضعافاً معدلات الفوائد الدولية. 2- سعر صرف ثابت على التوظيفات بالليرة اللبنانية مهما تبدلت الظروف. 3- ودين بضمانة الدولة اللبنانية. أي صفر في لائحة المخاطر.

هذا الواقع على فداحته كان ليبدو مقبولاً لو لم تسخّر كل التدفقات لخدمة النموذج نفسه. فبينما استمر العجز المالي وتوسع، وارتفعت أكمة الدين، كان الاقتصاد يدور على نفسه هيولياً ليخدم النموذج بلا رؤية ولا توجه ولا اصلاح. الوجه السلبي الآخر للعجز والدين كان النفقات الجارية لرواتب القطاع العام وخدمة الفوائد. ولا قدرة على اعتمادات ملموسة في الموازنة لتمويل مشاريع في البنى التحتية. وما تبقى منها اصلاً بلا صيانة. وبينما تزداد الحاجات كل سنة، تتراجع الخدمات كماً وجودة، وتتعمق الأزمة الاجتماعية بطالة وصحة وتعليماً وضمانات.

ارتضينا. لكن المشهد تغير حتى بات النموذج عاجزاً عن خدمة نفسه. فالحوافز الجائرة على الاقتصاد والعباد التي كان يتغذى منها وسبق ذكرها، فقدت قوة دفعها بعامل فقدان الثقة بالدولة ومؤسساتها. وبنظام سياسي طائفي فاسد متسلط، على مواطن لا ينشد سوى حقوق المواطنة بحدها الأدنى. عنصر ضمانة الدولة للبنانيين والأجانب في استثمارات النموذج، تصدع، حتى غدا العنصر المتمثل بالفوائد المرتفعة ومردود سندات الدين الخارجي يوروبوندز لا يبدد علاوة مخاطر الدولة. أمّا الوقاية من تقلب سعر صرف الليرة، الثابت والمهم في لائحة الحوافز الجائرة فيبقى موضع تساؤلين. حَتّام؟ وكيف؟ في ظل ضغوط العجز المالي وتكلفة العملات الأجنبية، مع نمو على شفا الركود، ودولة عاجزة عن تركيب مؤسساتها الدستورية، يصعب الاستمرار في سياسة تثبيت سعر الصرف ويرفع تكلفتها.

لو كان لدينا رجال دولة لعلموا أن استئخار تأليف الحكومة شهوراً مفتوحة، وقبلها استئخار انتخاب رئيس للجمهورية عامين، وقبل القبل التجديد لمجلس النواب تكراراّ بلا وكالة من الشعب، وغيرها من مظاهر الدولة الهشّة، يحطم سمعة الدولة الوطنية، وذمتها الائتمانية وثقة شعبها والخارج فيها. ومن العبث والحال هذه الحديث عن ضمانة دولة لديونها حتى لو كانت الدولة تعوم على الثروة والموارد. منذ نحو تسعة وعشرين عاماً ولبنان يبحث عن ضمانته السياسية المؤسسية في الخارج، مشفوعة بمساعدات وقروض تكميلية. والكل يعلم إن النموذج الاقتصادي اللبناني هو الابن الشرعي للنظام الطائفي الفاسد. وإن الثاني يعتاش على الأول في حلقة مفرغة شبيهة بحلقة العجز والدين. حين نقول استعصاء الفكاك بين الاثنين، إنما نقول استعصاء الحلول الدائمة للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. ولدولة وكيان ومواطَنة. دليلنا العواقب الوخيمة الحاصلة في كل يوم يُستأخر فيه تأليف الحكومة. في صرف النظر عمّا ستنتجه الحكومة لاعادة تثبيت النظام والنموذج معاً. الحديث عن حصص وزارية في وطن مزروع بالاحتمالات الخطرة، افلاس سياسي وأخلاقي لا تأتي بمثله مؤامرة موصوفة.

رضي الضامن ولا يرضى المضمون. بتنا أميَل الى الاعتقاد في أن تعاطي لبنان مع قرارات مؤتمر سيدر هو على خلفية رفض سدنة النظام السياسي أي اصلاحات مالية واقتصادية. وقد تبدى لهم أن التمويل الميسّر والهبات لن ترد هذه المرة من دون اصلاحات حتى لو لم ترتق الى اصلاحات جوهرية مستديمة وإنقاذية. الصراع على الحصص السياسية في الحكومة، فيه جزء من الصراع الخفي على الحصص الفعلية من كعكة مشاريع البنى التحتية الممولة من سيدر. وأقطاب النظام أو من يلوذ بهم ممن اكتسبوا عضويته بينهم كثير من رجال الاعمال والقوميسيونجية ووكلاء الشركات الأجنبية. والآلية التي سترعى تحويل التعهدات الى لبنان تفرض رقابة على حسن تنفيذ المشاريع وشفافيته. وكلها في أدبيات النظام السياسي "شروط ذميمة تقيد السيادة الوطنية وتمس الأخلاق الحميدة"!

يحصل ذلك ولبنان الحلقة الأضعف في منطقة تغلي بالمخاطر الجيوسياسية. من يعطل تأليف الحكومة بدعوى "الحقوق والاستئثار بالحصص" يفعل فعل المؤامرة وضالع فيها.