لا نشبه أحداً

عصام الجردي
الإثنين   2018/01/01
تكلفة مشاريع البنية التحتية 20 مليار دولار اميركي (أ ف ب)

أثنى تقرير بعثة صندوق النقد الدولي التي زارت لبنان في كانون الأول 2017 على برنامج الحكومة لزيادة الاستثمارت العامة في سنة 2018. في اشارة إلى مشاريع البنية التحتية التي تنوي الحكومة الشروع في تنفيذها بتكلفة اجمالية قيمتها 20 مليار دولار اميركي. (المدن 25 كانون الأول 2017 ) وأوصى الصندوق بأن تأتي أي زيادة في هذا المجال "ضمن خطة للضبط المالي تكفل استمرارية الدين في حدود يمكن تحملها. وسيكون من المهم أيضاً أن يأتي أكبر مقدار من التمويل للاستثمارات الإضافية من خلال منح أو قروض بشروط ميسرة، مع ضرورة اجتناب تمويلها من مصادر محلية". يضيف التقرير، "ثمة حاجة أيضاً لاحتواء التكاليف والمخاطر التي قد تقع على المالية العامة بسبب أي مشروع للشراكة بين القطاعين العام والخاص. وأخيراً، ينبغي تقوية الإطار المؤسسي لادارة الاستثمارات العامة قبل الشروع في الزيادة المقررة".

سنبدأ من مربط الفرَس."تقوية الإطار المؤسسي" لادارة الاستثمارات العامة التي وردت في التقرير وجوباً يتجاوز التوصية. في الدول المتحضرة التي تُحكم بقوة الدستور والقانون ومندرجاتهما، يفهم من الإطار المؤسسي لمشاريع الحكومات الاقتصادية والاستثمارية خصوصاً، كفاية الادارة العامة لتنفيذ المشاريع، والاشراف عليها ادارياً وتقنياً والجودة منها. وما إلى ذلك من معايير. في لبنان يعني الإطار المؤسسي إضافة إلى ذلك، قواعد الحوكمة والشفافية والنزاهة. ومحاربة الفساد وإهدار المال. ومعها الرقابة وحسن تنفيذ المشاريع. وكلها شروط ومعايير يؤدي تجاهلها إلى إحباط كل النفقات العمومية. وتبخيس جدوى المشاريع، واستنزاف أهداف النمو والتنمية. في تقرير منفصل لصندوق النقد الدولي عن الفساد في الدول النامية، يقدر حجم الرشى بأكثر من تريليون دولار اميركي سنوياً. ويرى التقرير "في حين أن ارقام الفساد الدقيقة أمرٌ خلافي، فإن أهمية المشكلة ذاتها ليست موضع خلاف".

ليس بالضرورة أن تكون توصيات صندوق النقد الدولي وصفة صيدلانية شافية. لا للبنان ولا غيره من الدول. خصوصاً وأن الصندوق يملك سجلاً تاريخياً من الوصفات الاقتصادية التي أدت في عقود طويلة من القرن الماضي الى اضطرابات سياسية في كثير من الدول. وكانت مؤدلجة وغير ناجعة في كثير من الحالات. لكن تركيز تقرير الصندوق عن لبنان على الإطار المؤسسي، ليس مسألة خلافية أيضاً بصرف النظر عن تكلفة الفساد وإهدار المال عندنا. وكلاهما صنو الآخر. الإطار المؤسسي في لبنان يقصد به أولاً القرار السياسي. وسلطات المؤسسات التشريعية والحكومية والقضائية، التي يفترض أن تضع مشاريع الاستثمارات العامة. وتقرر في النمو والمال العام ورؤية الحكومة الاقتصادية والاجتماعية. وتكفل البيئة السياسية لضمان لرقابة المشاريع وشفافيتها.

في حالات السوية السياسية والمؤسسية، كان يمكن اعتماد مؤسسات الرقابة والتفتيش والمحاسبة لضمان قواعد الشفافية والنزاهة والإفصاح في برنامج استثماري للبنية التحتية من 20 مليار دولار اميركي على سنوات. وكان من الطبيعي أن يتولى مجلس النواب رقابة الحكومة في تنفيذ المشاريع ومحاسبتها. وأن يتولى القضاء معاقبة المتجاوزين إن تجاوزوا. ولبنان لا يفتقر إلى مؤسسات رقابة ادارية ومالية ومحاسبية وقضاء. لكن المؤسسات خاضعة للسلطة السياسية بقيد مؤسسي. فهي التي تعين اداراتها باستحصاص للطوائف وتشرف على أعمالها. الحال نفسها في مجلس القضاء الأعلى والمجلس الدستوري ومجلس شورى الدولة. وكل تلك المؤسسات مخولة رقابة من يعينها ومحاكمته!

هذا هو واقع الهيكل المؤسسي الذي ينبت فيه الفساد ويزدهر، ويحول دون ازدهار الاقتصاد والنمو والتنمية ودولة الرفاه الاجتماعي. تغييره ليس مهمة صندوق النقد الدولي. هو مهمة اللبنانيين متى بطلوا زبائن زعماء الطوائف، وقرروا أن يكونوا مواطنين موفوري الكرامة في دولة حضارية عادلة وقادرة. صندوق النقد يعلم ذلك. لكن ما كان عليه إلاّ أن يدلي بدلائِه بعد أن اطلع على برنامج الحكومة الاستثماري بتكلفة كبيرة في بلد لحظ التقرير نفسه أن دينه العام بلغ في 2017 150% من ناتجه المحلي، وعجز حسابه الجاري 20% من المعيار نفسه. لم يقصد بضرورة "تقوية الإطار المؤسسي" هدم الهيكل الزبائني. إنما لما يراه من ركائز لضمان جدوى برنامج الحكومة الاستثماري ونزاهته فحسب.

ما كان يعوز الحكومة ومعها سلطات الهيكل الأخرى، لو تقدمت من اللبنانين في استهلال سنة 2018 برؤية اقتصادية واجتماعية، مقترنة ببرنامجها الاستثماري في البنية التحتية، لإطلاق نقاش واسع حيالهما، يعطي بارقة أمل مرة واحدة بقرب انتماء بلدنا الى نادي الدول التي يتوفر فيها تيار كهربائي على مدار الساعة. وتنتهي الى غير رجعة أزمة نفايات نظامية على تخوم المنازل والشوارع والمنعطفات. وقد انتجت أمراضاً عضالاً نظامية تغص المستشفيات بالمصابين بها. ويصبح عندنا مياه صالحة للآدميين. وغذاء صحي. واقتصاد لفرص العمل. ورعاية للعجّز وللفقراء. ونظام سير. نعم نظام سير. وكل شيء للحياة البشرية والبشر... لننحِّ كل الطموحات الأخرى التي نحسبها عندنا كبيرة ومعجزات. وتحسبها شعوب كثيرة على كوكبنا من بديهيات حياتها اليومية. وهي شعوب دون طاقاتنا ومواردنا البشرية كفاية واهلية.

شاء الهيكل المؤسسي الجائر أن تقفل سنة 2017 على البضاعة نفسها التي سئمنا. وعلى الكيد والكراهية والعنجهيات الفارغة، يتبادلها زوراً ورياءً سدنة الهيكل في بازار الطوائف. تعيينات من هنا وترقيات من هناك. تارة باسم الدستور. وطوراً باسم الميثاقية. هذه البيئة المؤسسية لا تنتج إعماراً ولا استثماراً ولا نمواً ولا تنمية. ولا تنتج عدالة ومواطنة. ولا تنتج أخلاقاً حميدة وشمائل. شبّهنا في مقالة سابقة سدنة النظام بنظام راوندا. لعلمكم، إن قبائل التوتو والهوتسي هناك بدأت استرداد وعيها. راوندا حققت في عقد من الزمن إنجازات كبيرة. وغيرت مسارها نحو السلام والبناء والاستقرار على ما تلحظ تقارير صندوق النقد الدولي. نحن لا نشبه أحداً. نعتذر إلى راوندا.