توتال في إيران.. أوروبا أولاً

عصام الجردي
الثلاثاء   2017/07/04
عودة عملاق النفط الفرنسي قرار سياسي (Getty)

في خطوة أولى بعد انتخاب إيمانويل ماكرون رئيساً لفرنسا، سارعت شركة توتال الى توقيع اتفاق مع ايران تستثمر بموجبه مليار دولار اميركي لتطوير منطقتها الاقتصادية من حقل بارس للغاز، من أصل 4.8 مليارات قيمة الاستثمار الكلي. بالاشتراك مع شركة النفط الوطنية الصينية وبتروباس الايرانية. كان يفترض أن يحصل الاتفاق في شباط الماضي. بيد أن توتال أخذت وقتاً لمعرفة موقف الرئيس الاميركي دونالد ترامب من ملف العلاقات مع طهران تحسباً لمتاعب على صلة بالتحويلات المالية والمصرفية والعلاقات مع الولايات المتحدة.

ميادين عمل الشركات النفطية الدولية وطبيعة أنشطتها الخارجية، شديدة الارتباط بالاعتبارات السياسية والأمنية الدولية. ولا تتحرك بعيداً من التوجهات الحكومية لبلادها. خصوصاً في مناطق خاضعة لعقوبات دولية واميركية. العقوبات الاميركية هي التي كبحت هجمة الشركات النفطية الدولية وغيرها على ايران بعد التوصل الى الاتفاق النووي في صيف 2015. ومع انقضاء فترة الاختبار التي حددت لطهران في كانون الثاني 2016، بقي القيد المالي والمصرفي جاثماً على التعامل مع ايران في انتظار موقف الرئيس الاميركي الجديد. ورغم قرار شبكة التحويلات المصرفية الدولية "سويفت" التي تتم من خلالها نحو 95% من التحويلات والمعاملات المصرفية الدولية، رَفع الحظر في شباط 2017 عن المصرف المركزي الايراني وعن خمسة عشر مصرفاً بينها بنك ملي الكبير، بقيت المخاوف الاوروبية في شأن العقوبات الاميركية على التعامل مع ايران في مجالات التكنولوجيا قائمة. تسلمت ايران طائرتا آير باص فقط من أصل مئة. أعلنت بعدها شركة الطيران الايرانية الوطنية ان إتمام الصفقة عملية معدة وتحتاج الى وقت. بينما جمّد الكونغرس تنفيذ صفقة بيع ايران ثمانين طائرة بوينغ.

كان لافتاً البيان الرسمي الذي صدر عن ادارة توتال بعد توقيع اتفاق تطوير حقل بارس للغاز. وقد وصفه البيان بأنه "امتثال صارم للقانون الفرنسي والقانون الدولي". في اشارة واضحة الى تجاهل موقف الرئيس الاميركي دونالد ترامب والكونغرس من رفع العقوبات الشامل عن ايران رغم التوصل الى الاتفاق النووي. "الامتثال" للقانون الوطني الفرنسي. وللقانون الدولي. ويقصد بالثاني العقوبات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة. رفعتا بموجب الاتفاق النووي. بقي القانون الاميركي الوطني (باتريوت آكت) الذي لا يسري خارج الولايات المتحدة. لكنه مستمر بسطوة الأخيرة على النظام المالي والمصرفي الدولي. "من يخترقه لا علاقة مصرفية ومالية له مع الولايات المتحدة".

دول الاتحاد الاوروبي دفعت ثمناً باهظاً في مسلسل العقوبات على ايران. اعتبرته فدية لا بد منها لو تمكنت طهران من انتاج طاقة نووية مخصبة كماً ونوعاً تكفي لصناعة قنبلة نووية. في تموز 2017 يكون قد مرّ عامان على الاتفاق النووي مع ايران الذي كانت دول اوروبية طرفاً فيه مع الولايات المتحدة وروسيا ومجلس الأمن. ومرّ عام ونصف عام على اختبار تقيد ايران بالاتفاق ورفع العقوبات الدولية. لكن جاء رئيس للولايات المتحدة يعارض الاتفاق من أصله. ويبقي على صلب العقوبات المالية والمصرفية، لاعتبارات لا تنسجم في الضرورة مع مصالح القارة الاوروبية. وفي مكان ما تراها الدول الاوروبية ضارة بمصالحها. إخراج المصرف المركزي الايراني ومصارف ايرانية مهمة من قيد نظام "سويفت" للتحويلات المالية والمصرفية الذي تستضيفه بروكسل، كان قراراً اوروبياً منسقاً مع الولايات المتحدة. والغرض منه على الأرجح تسهيل التبادل المالي والمصرفي الاوروبي مع طهران عبر قناة تحظى بشرعية دولية، وتقتفي أثر عمليات تبييض الاموال واموال الارهاب. وتنتسب الى النظام أكثر من 200 دولة. ويقدر حجم عملياته يومياً بنحو 24.5 مليون عملية. مع ذلك، فالعين الاميركية ليست غافلة عنه. ووكالة الامن القومي الاميركي متهمة بزرع جواسيس فيه على مدار الساعة.

عودة عملاق النفط الفرنسي الى ايران لا يمكن أن تكون من خارج القرار السياسي الفرنسي. وقد  تحذو حذوه شركات نفطية اوروبية اخرى مثل داتش شل الهولندية وإيني الايطالية وغيرهما. دول الاتحاد الاوروبي في عصر ترامب تراجع سياسات الشراكة مع حليفها الستراتيجي الاميركي على كل الصعد. في مقدمها الشراكة الاقتصادية. لم يترك ترامب مكاناً لخيار اوروبي آخر. ينسحب ذلك على الشؤون الدفاعية ايضاً. ما أعلنته المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل بأن على "أوروبا حماية نفسها بنفسها وتطوير قدراتها الدفاعية" كان رداً على ما وجهه ترامب لبلادها وبلغ حد التأنيب. "لأن الولايات المتحدة تسهم في حماية القارة. والمانيا لا تدفع ما يجب من أعباء مالية لقاء ذلك" على ما قال الرئيس الاميركي. وينسى أن أكبر قاعدة عسكرية اميركية في الخارج هي في فيسبادن في ضاحية فرانكفورت. يغتاظ لرؤية سيارات من طراز مرسيدس وبي إم دبليو تتبختر في شوارع الولايات المتحدة. بينما يأفل نجم ديترويت أمبراطورية صناعة السيارات الاميركية. يتجاهل أن بلاده استعادت معدلات نمو مجزية وأشبعت سوق العمل، وقت لا زالت دول الاتحاد الاوروبي عدا المانيا تعاني ازمة مالية واقتصادية اميركية المنشأ.

قد تستفيد ايران من اعادة ترتيب الاتحاد الاوروبي مصالحه الاقتصادية على خلفية موقف ترامب من كل اتفاقات الشراكة التجارية والامنية والعسكرية مع الحليف الاوروبي. ينمو اتجاه في الاتحاد الاوروبي هذه الايام مفاده أن ترامب لن يغلِب أي معطى دولي على حساب مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية. هو على الضفة الأخرى من الاطلسي يقبع على أعتى قوة عسكرية في العالم. تبعات الارهاب تحملتها الدول الاوروبية في الدرجة الاولى. العقوبات على روسيا التي جدّدها الاتحاد الاوروبي الشهر الماضي نتيجة احتلال موسكو شبه جزيرة القرم وتدخلها في أوكرانيا، إنما تتحملها دول الاتحاد وليس الولايات المتحدة. وعلاقته ملتبسة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وجرائمه في سوريا. وبينما يعقد الصفقات الكبيرة في الشرق الاوسط، تبقى عناوين سياساته الخارجية غير واضحة ولا منسقة مع دول الاتحاد.