"الميثاقية المالية" في انتخابات المصارف

عصام الجردي
الأربعاء   2017/06/28
معظم المرشحين في لائحة طربية يمثلون المصارف الكبيرة من مجموعة ألفا (علي علوش)

تتسم انتخابات مجلس جمعية مصارف لبنان المقررة في 30 حزيران يونيو الحالي بأهمية استثنائية. ما لم تحصل تسوية اللحظة الأخيرة تسفر عن انسحاب عضو المجلس الحالي سليم صفير ( بنك بيروت ) ولائحته لمصلحة الدكتور جوزف طربيه (بنك الاعتماد اللبناني) ولائحته، فالانتخابات واقعة في موعدها. ولا يلغي ذلك في الضروروة الانتخابات حتى لو بقي مرشح واحد ضد لائحة أو أكثر. وهو احتمال ضعيف. صفير أعلن لائحته مبكراً لقطع الطريق على التسويات. اختار "التغيير" عنواناً لها. ويقول إنه ينطلق من المصارف الصغيرة الحجم والمتوسطة كقاعدة انتخابية مريحة. "راودها عن نفسها" بند أول في برنامجه الانتخابي "وجوب التزام الجمعية مصالح المصارف في كل فئاتها".

 

طربيه الذي استأخر تشكيل لائحته ربما إفساحاً في المجال لتسوية ما، عاد وأعلنها وفيها ثلاثة من المصارف الصغيرة. ومعظم المرشحين الآخرين يمثلون المصارف الكبيرة من مجموعة ألفا. وحملت لائحته "القرار المصرفي" عنواناً. فالعنوان يفترض أن يحدد مسار الانتخابات في الجوهر. في صرف الاعتبار عن أكثرية وأقلية من أصل ستة وستين مصرفاً يحق لممثليها الاشتراك في الانتخابات.

 

ورغم وجاهة المعطيات المذكورة في انتخابات تقليدية لجمعية أو لنقابة قوامها قاعدة التصويت العددية، فجمعية مصارف لبنان شأن آخر مختلف. معاييرها مختلفة. حجمها في الاقتصاد ودورها ووظيفتها كذلك. وثقلها في صناعة القرار الحكومي المتصل بالسياسات العامة الاقتصادية والمالية والنقدية. والتالي بالقرار السياسي نفسه في نظام اقتصادي قائم على الريوع والخدمات. هذه هي السمة الاستثنائية التي تكتسبها انتخابات جمعية المصارف. لذلك فمقاربة موضوعية للانتخابات تنتقل بنا إلى الاستنتاجات الآتية:

 

أولا في الحجم: تمثل جمعية المصارف قطاعاً تتجاوز ميزانيته المجمعة أكثر من 4 أضعاف الناتج المحلي. حصة مجموعة ألفا منها في الربع الأول 2017 بحسب (BANKDATA) نحو 218 مليار دولار أميركي. أي زهاء 80% من ميزانية المصارف المجمعة. وحصتها في السوق ودائع وتسليفات توازي حدود الحجم نفسه.

 

ثانياً في تمويل عجز الموازنة: مجموعة ألفا هي الممول الرئيسي لعجز الموازنة والنفقات العمومية والدين العام. وقد بات لها من خلال جمعية المصارف دور مهم في الموازنة العمومية. ودخلت شريكاً لا يمكن إغفاله أو تجاهله في التركيبة السياسية- المالية في البلاد. وفي استمرارية كيان الدولة المالي المرتبط بتلك المعادلة البائسة.

 

ثالثاً في السياستين النقدية والمصرفية: مجموعة ألفا هي ذراع مصرف لبنان لتثبيت سعر صرف الليرة. وقاعدته التي ينطلق منها في سياسته المصرفية للامتثال لمعايير العمل المصرفي وتشريعاته الدولية. المجموعة تسيطر على سوق الإنتربنك وتسعير الفوائد بلا منازع بالتنسيق مع مصرف لبنان. تتبعها بقية المصارف. وفي المجموعة أيضاً خزان الودائع لتسليف الاقتصاد (حيث يسمح الريع) وهي المؤهلة للاشتراك في مشاريع اقتصادية لتمويل البنى التحتية على غرار مشروع قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص المرتقب إقراره في مجلس النواب في وقت قريب. كل ذلك ليس على وجه الحصر. وهذه المجموعة تدعم طربيه ولائحته بقوة.

 

نستدرك بسرعة للقول، إن الحجم ليس معياراً نموذجياً لقياس سلامة مركز المصارف المالي. وأحياناً يكون العكس صحيحاً، متى تجاوز المصرف الكبير مؤشرات السلامة والملاءة والاحتراز. الأزمة المالية العالمية لم تحصل في مصارف صغيرة. بيد أن الأمر مختلف حين نقترب من جمعية المصارف وصفتها ودورها. هي ليست نقابة عادية تدافع عن مصالح أعضائها كأي نقابة أخرى. تأسست في العام 1959 قبل تأسيس مصرف لبنان (1963). وخولها قانون النقد والتسليف عضوية مؤسسات عدة مهمة كلجنة الرقابة على المصارف. وعضوية الهيئة المصرفية العليا والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع. بالاضافة إلى عضوية لجان حكومية واقتصادية ومالية. وهناك نصوص في القانون تقضي باستشارة الجمعية في القرارات والتعاميم التي يصدرها مصرف لبنان.

 

الالتباس الكبير وتضارب المصالح التي تنطوي عليها مسؤوليات جمعية المصارف وعضويتها في الهيئات المذكورة، إنما يعبر عن نفوذ قديم للمصارف في صناعة القوانين والقرارات المالية والمصرفية. تعاظم ذلك النفوذ بعد الحرب.  وباتت المصارف في "شراكة مصير" مع دولة مدينة بأجل غير معلوم. ولأن التمركز المصرفي الكبير في لبنان، ودائع وتسليفات هو في مجموعة "ألفا" نفسها من أربعة عشر مصرفاً، باتت تلك المجموعة تعتبر تمثيلها على رأس جمعية المصارف إنما لحماية مصالحها ومصالح القطاع المصرفي.

 

بالتالي، فالاجتماعات الشهرية وغيرها التي تعقدها مع المجلس المركزي لمصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف قبل صدور التعاميم التنظيمية والرقابية والترسملية وسواها، يفترض وجود من يحوز الصفة التمثيلية الأقوى بلا منازع للدفاع عن مصالحه أولاً، ولإكساب القرارات صفة الإلزام والامتثال ثانياً. خصوصاً متى علمنا ان قرارات جمعية المصارف ليست ملزمة أعضاءها. هذا يعني أن إقصاء الأقوياء عن مسؤوليات الجمعية يترك الأخيرة بلا صفة يعتد بها، لو أصرت ألفا على حقها بادارة مصالحها كما تريد. من هنا نفهم أن "القرار المصرفي" عنوان لائحة طربيه ليس مبالغاً فيه وواقعيٌ في هذا المعنى إلى حد كبير.

 

وما نفهمه أكثر أن معادلة الرقم والصوت في صندوق انتخابات جمعية المصارف ليسا مقررين. بل الصوت المثقّل بالوزن وبـ80% من حجم المصارف وحصتها في السوق وتمويل الدولة والنفوذ المالي والسياسي في البلد. صفير من خلال مصرفه عضو في مجموعة "ألفا" وجمعية المصارف. من حقه الترشح. وذهب اليه من خارج معادلة الوزن. طربيه عتيق، وشبك علاقات مصرفية وعربية ودولية واسعة مازال يشغلها حتى الساعة مع رئاسة جمعية المصارف. لا نتوقع شقاقاً في الجمعية بأي ثمن. كادت تحصل مرة إنما في "بيت المجموعة" بين الدكتور فرنسوا باسيل وريمون عودة. وكان الحلّ لصيانة المصالح رئاسة مداورة لكل منهما لسنة واحدة. هذه المرة الظروف أعقد. ولبنان تحت مجهر عقوبات قد تتجاوز حزب الله. هناك محاولات مؤثرة لتسوية اللحظة الأخيرة. يقول صفير إن التغيير حصل في رئاسة الجمهورية والحكومة وقانون مجلس النواب. لكنه نسي "الميثاقية" التي أوصلت الرئيس إلى بعبدا قبل أن ينال أكثرية عددية في صندوق الانتخاب. إنها "الميثاقية المالية" هذه المرة.