ماكرون.. رحلة شاقة في الاقتصاد والشارع

عصام الجردي
الإثنين   2017/05/08
نفذ ماكرون إلى قصر الإليزيه بلا تجربة سياسية (Getty)
حين يدهم الشعور بالخطر، يهرع الناس إلى المخارج طلباً للنجاة. وليس في الضرورة أن تكون المخارج ملاذاً. الفرنسيون فعلوا ذلك. انتخبوا إيمانويل ماكرون رئيساً للجمهورية. وخذلوا رئيسة الجبهة الوطنية مارين لوبان. الأرقام الأخيرة بعد فرز أصوات 47 مليوناً شاركوا في الانتخابات خلا 0.01% نال ماكرون 66.6% ولوبان 33.94%. لم ينتصر ماكرون رغم انتخابه. ولم تخسر لوبان رغم هزيمتها. ماكراً كان ماكرون ومراوغاً. قبل الانتخابات وبعدها. كان يعلم أنه سيفوز بأصوات معارضي لوبان وكارهيها، أكثر مما سيجمعه من أصوات لنهجه وفكره ووعوده. كمثل عزمه على "فتح صفحة جديدة من الأمل واستعادة الثقة". أو تأكيده على "حماية الفئات الأضعف وضمان أمن الأمة". على ما قال بعد ظهور النتائج. "ولن أدع أي شخص يفكر بالتصويت لليمين المتطرف". لكنه، وهو المصرفي اليميني القادم من أمبراطورية روتشيلد، لم يقدم ما يقنع كيف سيحقق الحماية للفئات الأضعف. ولم يفعل ذلك حين كان وزيراً للاقتصاد في حكومة الرئيس فرنسوا هولاند.

لوبان على عنصريتها وقوميتها المتعصبة، كانت أصدق وأكثر تحديداً. لم تخف مواقفها ونياتها. ولم تُدل بتصريحات مسطحة. أقرت بفوز خصمها. وقالت إن "الفرنسين اختاروا بقاء الوضع الراهن". ماكرون جاء بأصوات "الضدّ". لوبان نافست بأصواتها وحصل حزبها الجبهة الوطنية على 10.6 ملايين صوت. ضعف ما حصل عليه والدها رئيس الحزب السابق جان ماري لوبان في 2002 حين ترشح ضد الرئيس السابق جاك شيراك. الجبهة الوطنية اليوم أقوى حزب سياسي معارض. والمعركة فتحت على مصراعيها مع رئيس بلا حزب ولا جذور سياسية، يحتاج إلى غالبية في مجلسي النواب والشيوخ. وحسابات انتخابات المجلسين المقبلة مختلفة. الأصوات التي نالها ماكرون في انتخابات الرئاسة ستصب إلى أحزابها. تأليف الحكومة لن يكون بائتلافات يسيرة.

نفذ ماكرون إلى قصر الإليزيه بلا تجربة سياسية. لكنه يحمل تجربة اقتصادية لا تبعث على الارتياح في أوساط النقابات الفرنسية. سلفه الرئيس فرانسوا هولاند الذي أتى به من الوسط المصرفي إلى وزارة الاقتصاد تحمّل وزر خطته المعروفة "قانون ماكرون" الذي اتّسم بليبرالية مغالية. اعتقد هولاند أن القانون سيخفض مستوى البطالة في فرنسا إلى دون الرقمين. فمرره في 2015 بموجب صلاحيات الرئيس الاستثنائية بعدما افتقر إلى غالبية في مجلس النواب. وكانت النتيجة صفراً تحملها في المحصلة هولاند نفسه. بينما استقال ماكرون وترك هولاند يواجه مصيره. وبدأ يستعد للانتخابات الرئاسية. وهولاند ربط ترشحه إلى ولاية رئاسية ثانية بخفض مستوى البطالة. وصدق وعده. ثم عاد في 2016 ومرّر قانون العمل المعروف "قانون الخمري" من دون المرور بمجلس النواب. وكان بداية لصدع كبير في الحزب الاشتراكي، ومعارضة قوية من كل النقابات العمالية على اختلاف توجهاتها السياسية بالنظر إلى اقتطاعه مكاسب للعمال مكرسة عبر عقود.

كل النقابات العمالية الكبيرة التي وقفت بقوة ضد التصويت للوبان لم توجه قواعدها بالتصويت لماكرون. خلا تأييد خجول للنقابة العامة للعمل، ذات النفوذ الشيوعي على خلفية معارضتها لوبان. كونفدرالية النقابات القوية لم تؤيده. امتناع نحو ثلث الناخبين الفرنسيين عن التصويت و/أو الاقتراع بأوراق بيضاء مرة أولى منذ 1969، كان في جزء أساسي منه، نتيجة لموقف النقابات من توجه ماكرون الاقتصادي والاجتماعي، ومعارضة الفئات الاجتماعية الفرنسية الأقل دخولاً. هكذا كان موقف الحزب الراديكالي وجان لوك ملنشون. هذا الفريق فصل بين موقفه من التطرف العنصري للوبان وحزب الجبهة الوطنية، وبين موقفه المعارض بشدة مواقف ماكرون الاقتصادية. عوض الأخير تلك الأصوات بدعم مؤسسات أصحاب الأعمال والمصارف إياه. وقد صبّ نفوذها الكبير في الكامل لمصلحته. بين المتنافسين الثلاثة الأوائل في جولة الانتخابات الأولى برز الأمر واضحاً. لا مجال للتصويت للوبان المعادية للتجارة الحرة والاتحاد الاوروبي ولمنظمات الاقتصاد الدولي. والتصويت ضدّ ملنشون اليساري المتشدد مفروغ منه. حتى إذا حلت الدورة الثانية من الانتخابات خرجت لوبان نهائياً من خيارات أصحاب الأعمال والمصارف.

مدير المؤسسة الفكرية "جنرايشن ليبر" غاسبار كوينيغ قال إن 50% من "الفرنسيين يعارضون اقتصاد السوق بطريقة راديكالية كما ظهر من مسار الانتخابات. وشاهدنا صعوداً قوياً لتيارات معادية للرأسمالية". ماكرون لم يتخلّ عن توجهاته السابقة، خصوصاً ما يعتبره اصلاحات قانون العمل. مع انتقاصه من ميزات العمال الاجتماعية، وقيمة ساعات العمل الإضافية، يحدد سقوفاً لتعويضات المصروفين من العمل تعسفاً، وللمصروفين جمعاً في حال قفل المؤسسة دون السقوف التي تحكم بها محاكم العمل المدعومة بالقانون السابق. ويمنح صاحب العمل إمكان تسريح العامل، عند تراجع فرع الشركة الذي يعمل فيه العامل بضعة شهور. بينما تعترض النقابات على ذلك، إذا كان الفرع لشركة كبرى، تجني أرباحاً من فروعٍ أخرى. وأكثر ما تعارضه النقابات مس حقها بالتفاوض على عقود العمل الجمعية والتفاوض مع العمال فرادى. يصر ماكرون على قانون العمل والتشريعات الاجتماعية ذوات الصلة مدخلاً إلى الاصلاح الاقتصادي. ينوي إعادة النظر بتشغيل نحو 120 ألف مستخدم في القطاع العام. عزمه على توحيد نحو 37 مؤسسة معنية بالضمانات الاجتماعية والصحية في فرنسا، له كثير مما يسوغه. لكن ينظر إليه من جانب تحلل الدولة من التزاماتها الاجتماعية لمصلحة شركات الضمان الخاصة. وبدء العد التنازلي لمجتمع الرفاه الاجتماعي الذي تميزت به الدولة الفرنسية.

وإذ يرفض ماكرون تصنيفه ليبرالياً جديداً ويمينياً، تنحو مواقفه الاقتصادية منحى الاتجاه نفسه. فيقع في التناقضات المشابهة التي تخبط فيها اللبيراليون الجدد بدعوى الاصلاح الاقتصادي. خفض الضرائب على الشركات. وخفض عجز الموازنة في وقت واحد. أي عملياً إيراداتها. تخصيص 50 مليار يورو منها 15 ملياراً لمجموعات معينة "لفك ارتباط الفقراء وسكان الضواحي بالارهاب" وخفض الدين العام. حالياً نحو 2100 مليار يورو. زهاء مئة في المئة إلى الناتج المحلي. تساهلت المفوضية الاوروبية مرتين مع حكومة هولاند بضغط من مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل، لخفض العجز الى 3 في المئة استجابة للمعيار الاوروبي. ويسجل لهولاند إصراره على توفير التمويل في الموازنة لمشاريع تنموية أولوية على كبح العجز والدين. النموذج الألماني المحابي لخفض العجز أولاً الذي تلتزمه المفوضية. لو اتجه ماكرون المصر على اصلاح الاتحاد الاوروبي إصراره على استمرارية فرنسا فيه، نحو النموذج الألماني القائم على خفض الإنفاق لمعالجة العجز والدين، من دون الساق الاساسية وهي النمو وفرص العمل، ستكون رحلته شاقة مع الاقتصاد ونقابات العمال.