الصندوق السيادي للغاز: تقليد النروج أو اللبننة؟

علي نور الدين
الإثنين   2017/02/27
إدارة الصندوق عند تأسيسه ستكون لمصرف لبنان؟ (عزيز طاهر)

الصندوق السيادي لعائدات النفط والغاز في لبنان على نار حامية في مداولات بين وزارتي المال وهيئة إدارة قطاع البترول في لبنان. أمّا الإدارة عند تأسيس الصندوق فستكون- على ما توحي المداولات- لمصرف لبنان. والصندوق محفظة الدولة لمداخيل لبنان من هذه الثروة، وهي مداخيل ستكون مجحفة للغاية بحق لبنان كما يبدو من خلال القوانين والمراسيم التي فرّطت بنسبة الدولة من المردود النفطي أوّلاً، وبحقّها في المشاركة بإدارة وتملّك الإستثمارات النفطيّة ثانياً.

لكن ثمّة محاذير وهواجس تطرح نفسها حول هذه النسبة "الناجية" في الصندوق السيادي، خصوصاً أن تجربة لبنان النفطيّة القصيرة لغاية الآن لا تبشّر بالخير.

السؤال الأوّل عند تأسيس هذا الصندوق يجب أن يكون عن الضوابط على نسب توظيف أمواله، أي تحديداً سقف التوظيفات في كل فئة من الأصول الماليّة. على سبيل المثال، توظيف جزء كبير من موجودات الصندوق في عمليّات شراء سندات الخزينة سيعني حكماً تسرّب العوائد النفطيّة إلى صناديق الخزينة مجدّداً، إنّما من بوّابة الإستدانة هذه المرّة. بالتالي، ستعود هذه العوائد إلى مزاريب الهدر وسوء الإدارة. هذا الأمر لن يؤدّي إلى نقيض أهداف الصندوق فحسب، بل كذلك إلى تضخيم حجم الدين من خلال إصدار سندات الدين السيادي التي ستحملها وتتداولها محفظة الصندوق السيادي. مع العلم أن توظيف مصرف لبنان (الجهة التي ستدير الصندوق) لموجوداته المتأتّية من المصارف عبر الاحتفاظ بسندات الخزينة سياسة معتادة لدى المصرف، وشكّلت طريقة غير مباشرة شهيرة لتمويل الدين العام.

من الأمثلة على هذه الضوابط السقوف المحدّدة لصندوق النروج السيادي، وهو الصندوق الأكبر والأشهر في العالم بموجودات ناهزت 885 مليار دولار، والمعروف بإدارة رشيدة يُضرب بها المثل في هذا المجال. ففي العام 1998، تم تحديد نسبة 40% من إجمالي توظيفات هذا الصندوق كحد أقصى للاستثمار في سوق الأسهم الدولي، ثم تم رفع هذا السقف إلى 60% في العام 2009، بينما تم تحديد نسبة 5% منه في العام 2010 للتوظيف في السوق العقارية. أمّا 35% الباقية من الموجودات فمخصّصة للاستثمارات ذات العائدات الثابتة (وهي تشمل السندات الحكوميّة وسندات الشركات وشهادات الإيداع وغيرها).

لكن هذه 35% ذات العائدات الثابتة محكومة بضوابط. فتتوزّع بين 70% كسندات حكوميّة و30% للقطاع الخاص. والنتيجة محفظة سندات حكوميّة لا تتخطّى 24% من إجمالي موجودات الصندوق.

الهاجس الثاني في الحالة اللبنانيّة يتعلّق بمستوى الشفافيّة، الذي ستشهده مداولات وقرارات الصندوق السيادي. وهي نقطة مقلقة بالنظر إلى مستوى التعتيم الذي شهدته كل المداولات التي سبقت المراسيم النفطيّة. بالإضافة إلى ذلك، لا يستطيع المراقب توقّع مستوى الشفافيّة الذي سيمارسه مصرف لبنان تحديداً في إدارته الصندوق. فكثير من الخطوات التي يقوم بها المصرف تبقى طي الكتمان بآليّاتها ونتائجها، كما تظل محل تساؤل لدى المراقبين لجهة الأسباب والنتائج الفعليّة والخيارات البديلة. وهي سمة من سمات السياسة النقديّة في لبنان.

وفق نتائج احصاء لصندوق النقد الدولي، يمثّل صندوق النروج السيادي نموذجاً يمكن التعلّم منه في مجال الشفافيّة، خصوصاً لجهة اعتماده أعلى معايير الإفصاح المالي الممكنة. فمثلاً، تنشر وزارة المال بشكل دوري تقارير مفصّلة تحدد إستراتيجيّة الصندوق الاستثماريّة ونتائجها، كما تحدّد الضوابط الأخلاقيّة التي ترعى نشاطه. أمّا المصرف المركزي فينشر في تقارير فصليّة معلومات عن إدارة الاستثمارات والنتائج الماليّة، بالإضافة إلى معلومات عن التوظيفات التي يقوم بها الصندوق.

لا تنتهي الشفافيّة عند هذا الحد، بل ينشر الصندوق كذلك معلومات عن قرارات التصويت التي قام بها في الجمعيّات العموميّة للشركات التي يملك أسهماً فيها. وينشر تقارير محدّدة عن كل مجموعة أنشطة في كل قطاع على حدة، لتسهيل تقصي المعلومات عند الجمهور. وتخضع أنشطة الصندوق لمتابعة المجلس النيابي الذي يحافظ على دوره الرقابي، ويمثّل الشعب في مساءلة الصندوق في شأن الأنشطة التي قام بها بشكل علني.

أخيراً، تخضع كل الأنشطة للائحة معايير أخلاقيّة مبنيّة على مبادئ أرستها وزارة المال في النروج بوضوح. فمثلاً، يحافظ الصندوق على ملكيّة استثمارات حصراً في الشركات التي تحترم حقوق الإنسان والممارسات التجاريّة المسؤولة. ويبتعد عن الاستثمارات المضرّة بالبيئة وتلك التي تنطوي على ممارسات غير مشروعة.

بالإضافة إلى مخاوف الشفافيّة والمحاسبة والضوابط، ثمّة سؤال أساسي مرتبط بكل تلك المخاوف عن هيكليّة الصندوق وآليّات اتّخاذه القرار داخليّاً. فعمليّاً، سيقوم الصندوق باتخاذ عدد كبير من القرارات التي ستترتّب عليها نتائج ماليّة ونقديّة مهمة، والحؤول دون استفادة كثير من الأطراف من هذه القرارات يحتاج إلى هيكليّة تضمن الابتعاد عن تضارب المصالح. ولا شك في أن تاريخ لبنان في هذا المجال لا يطمئن، إذ إنّ قرارات أكثر وضوحاً وأقل تعقيداً تتعلّق بحصّة لبنان من النفط لم تراع المصلحة العامّة لخدمة مصالح تجاريّة، وذلك من قبل مؤسّسات دستوريّة تعمل تحت الرقابة الإعلاميّة اليوميّة. فكيف إذا كنّا نتحدّث عن أدوات ماليّة تعمل على مستوى سوق دولية شديد التعقيد في متغيّراتها ومصالحها وكذلك آليّات عملها؟

في العودة إلى النموذج النروجي، يتكامل الهيكل الإداري الداخلي مع النموذج الرقابي المفروض على الصندوق. فيدير الصندوق مجلس إدارة يدير عمليّاته، تحت إشراف مجلس تنفيذي يقوم بتحديد مهمات وحدود صلاحيّات مجلس الإدارة ويضع المبادئ المحدّدة لكيفيّة إدارة المخاطر. أمّا مجمل هذه العمليّات، فهي خاضعة وبشكل دقيق لمراقبة مجلس رقابة ينتخبه البرلمان، ويتولّى التدقيق والمصادقة على الميزانيّات والتأكّد من مطابقة الأنشطة للقوانين والأنظمة. ويملك الصندوق مجلساً استشارياً خاصاً لتطوير مستوى استثمارات الصندوق.

ربّما يصعب إلى حد كبير اختصار الهواجس المتعلّقة بالصندوق السيادي، إذ إنّ إدارة الصناديق الاستثماريّة تحدّ كبير في أكثر البلدان تطوّراً في أنظمتها الماليّة، بالنظر إلى التعقيدات التي ترتبط بتوظيف هذا الحجم من الأموال العامّة في أسواق ماليّة معقّدة، من دون الوقوع في فخ المصالح الخاصّة. فكيف إذا كنّا نتحدّث عن بلد ذي تجارب سيئة في هذا المجال تحديداً؟ وهل ستملك الدولة القدرة على استباق هذه الهواجس بوضع تشريع مفصّل يراعي حاجة الصندوق لضوابط الاستثمار والشفافيّة والإدارة الرشيدة؟