نتوجس مكيدة النفط

عصام الجردي
الإثنين   2017/12/18
عارض واحد رسا عليه التلزيم بما يشبه التراضي (ريشار سمور)
لم يفرح اللبنانيون كثيراً لثروة النفط والغاز التي قيل إننا نملك منها خزيناً خاماً بمليارات الدولار الاميركي. عشرات المليارات أو المئات. فالأمر غير محسوم بعد حتى عند ذوي الخبرة. والحال يختلف بين الخزين المثبت وبين الخزين الافتراضي. ونحن في مرحلة استكشاف وتنقيب لم تبدأ عملياً بعد.


ردة الفعل لا توحي بصدمة ايجابية بالمقدار الذي تعنيه تلك الثروة لبلد مدين بنحو 140% إلى ناتجه المحلي. ويعاني شظف عيش وقلقاً وعدم استقرار على كل المستويات. ونزعم لو خُير اللبنانيون بين سلطة سياسية شفافة، وحكم القانون والمؤسسات مع حد مقبول من الاستقرار السياسي، وبين ثروة النفط والغاز تديرها السلطة السياسية الحالية لاختاروا بلا تردد الخيار الأول.

وافق مجلس الوزراء في جلسة وئام سياسي منقطعة النظير على تلزيم تحالف شركات توتال الفرنسية، وإيني الايطالية، ونوفاتك الروسية مهمة الاستكشاف والتنقيب عن النفط في مراحله الأولى. كان لافتاً في قضية بهذه الأهمية، عدم ترؤس رئيس مجلس النواب جلسة اللجان النيابية المشتركة، التي فقدت نصابها قبل أن تقرر في شأن اقتراحات القوانين المتعلقة بالصندوق السيادي، وشركة النفط الوطنية وإنشاء مديرية عامة للأصول البترولية في وزارة المال. وقيل إن قسطاً من النقاش كان على إحالة مشاريع قوانين من الحكومة أو التشريع مباشرة من مجلس النواب. الرأي العام الذي تلقف خبر تلزيم تحالف الشركات الثلاث، لم يعلم أي تفاصيل تذكر عن الاتفاق ولا عن كيفية التوصل إليه. ولا ذكر التحالف السياسي المحسوبة عليه وزارة الطاقة والمياه شيئاً من ذلك.

قيل لنا في مرحلة اطلاق دورة التراخيص الأولى، إن 52 شركة أوروبية وآسيوية وأميركية وعربية تقدمت بطلباتها. بعد إخضاعها لمعايير التأهيل بقيت 46 شركة. منها 12 شركة صاحبة حق مشغلة و34 أخرى صاحبة حق غير مشغلة. تحالف توتال وإيني ونوفاتك هو الذي فاز في النهاية. يعني إن عارضاً واحداً رسا عليه التلزيم بما يشبه التراضي. ماذا عن عشرات الشركات الأخرى عروضها؟ لا معلومات. أو لا معلومات للنشر. لماذا يحصل ذلك في قضية لا يفترض أن تخضع لمعيار واحد من السرية. الموارد لعموم الشعب اللبناني. فماذا يسوغ إسدال ستار من الغموض عليها؟ والمطلوب عكس ذلك تماماً من إفصاح وشفافية ووضوح.

في الصندوق السيادي سنشهد فصلاً جديداً من اللبس. الصندوق سيستقبل عائدات النفط والغاز في مرحلة ثانية. تأسيسه لغايات نبيلة يحتاج إلى مجرد قانون. لكن وظيفة الصندوق وتوظيفاته ومجالاتها، والادخار والانفاق وأهدافها، تعتمد على رؤية اقتصادية تنموية طويلة الأجل. تحدد الخيارات الاقتصادية والأولويات. هذا يجب أن يسبق قيام الصندوق وتحديد الجهة التي ستديره وتشرف عليه. فاذا كانت قضية النفط والغاز وبت ملفها وإرساء التلزيم للحلف الثلاثي لم يخضع للمناقشات المفتوحة والشفافة، فشأن الصندوق السيادي وأهدافه التنموية ووظيفته تحتاج إلى حوارات معمقة وحشد المعارف والدعم الوطني. وليس لمؤسسة أو لسلطة أو لوزير أن يستأثر بقرارات من هذا النوع. وادارة الصناديق السيادية وعائداتها وتوظيفاتها تختلف بين بلد وبين آخر، تبعاً لأولويات الأهداف والمهمات، وباتت تخضع لمعايير مالية ونقدية ولترقبات الأسواق والدفق النقدي، ولتوقعات أسعار النفط والغاز، وأثر ذلك على الدورة الاقتصادية والموازنة والنقد وميزان المدفوعات. الدول التي تستقبل توظيفات الصناديق السيادية سندات وأسهماً وعقارات وخلافها، ترصد حركة تلك الصناديق على أسواقها واقتصاداتها. فكيف في بلد منشأ الصناديق؟ والأهم من كل ذلك اعتماد الشفافية وقواعد الإفصاح، والتقيد بلوائح تنظيمية دولية وبما يعرف مبادئ سانتياغو. في 2008 خسرت الصناديق السيادية نحو 25% من أصولها نتيجة الأزمة المالية. توزيع أصول الصندوق في بيئة مخاطر وتراجع أسعار النفط يحتاجان إلى حرفية ودراية ووسائل تحوط من المخاطر. فملف النفط والغاز والصندوق السيادي يجب أن يتقدمان على قانون 132 الذي خول وزير الطاقة والمياه صلاحيات كبيرة لا يحوزها وزير بمفرده في أي بلد في العالم. ولا الوزير أياً كان يتقبل تحمل مثل تلك الأعباء الجسيمة.

كل أنظمة الريوع في العالم أرض خصبة للفساد. النفط أحد تجليات الريوع الأبرز. في معطم الدول النامية خلّفت ريوع النفط فساداً وديكتاتورية في وقت واحد. لو كان نظامنا الاقتصادي بعيداً من الريوع العقارية والمالية والتجارية، ومن مفهوم الوساطة والقوميسيون، لما انغرز نظامنا السياسي الى هذا الحد من الفساد والانحطاط الأخلاقي.

نعم، المواطن مسكون بالقلق حيال ادارة ملف النفط السياسية والادارية. رقابة ديوان المحاسبة مؤخرة على أعمال الصندوق السيادي بموجب القانون 132. ولا يخضع لمجلس الخدمة المدنية ولنظام الموظفين. القانون يجب أن يعدل لإخضاع الصندوق للرقابة المسبقة وللتفتيش المركزي والمالي ولكل ما يمكن أن يستحدث من مؤسسات رقابة جديدة صارمة وقطعية. نحن في حاجة الى ورشة اصلاح كبيرة لادارة ملف النفط وعائداته وتوظيفاته ولعملية تنمية مهيضة في نظام يتلطى بأيديولوجية الطوائف لتهميش المواطنة وحق المواطن بدولة قانون وعدالة ورفاه.

بدأنا نتوجس مكيدة النفط بين أنياب نظام الإستحصاص أو "المحاصصة" بلغتنا السياسية. لا تهمنا طائفة ادارة الصندوق السيادي ومن يمسك بملف النفط. هاتوهم من طائفة واحدة لكن أوادم لا يسترهنون علمهم وضمائرهم لسياسي رثّ وعفن ليحافط على مركزه ومكانته. ولا تصطنعوا خلافاً وإفكاً على نوع الطائفة. الطوائف كلها خاضعة للمنظومة السياسية. تعطل دولة المواطنة وحقوق المواطن التي كفلها الدستور من دون تمييز بين مواطن وبين آخر. تستقطع الوظيفة العامة وحقوق الاقتصادية والاجتماعية منافع سياسية ومالية. المنظومة السياسية الزمنية بدعوى الحرص على الطائفة، هي التي تنتج رؤساء الطوائف وليس العكس. كل الخلافات السياسية التي تسمم أجواء البلد واستقراره السياسي والاقتصادي والاجتماعي لم تكن مرة واحدة على خلفية التنابذ بين رؤساء الطوائف والأديان. بل كانت بين ممثلي الطوائف في المنظومة السياسية لمصالح اقتصادية وسياسية لقادتها وأحزابها. يكفيكم ما فوق الأرض. دعوا ما في الباطن لأجيال نتمنى ألاّ تنتمي إلى أرومتكم.