الإقتصاد الإيراني الغامض

البروفيسور جاسم عجاقة
الأحد   2016/08/21
إستطاعت إيران الإستفادة من الثروة الغازية البالغة 34 تريليون متر مكعب من الغاز (Getty)
عام مرّ على الاتفاق التاريخي على البرنامج النووي الإيراني، الذي أدّى إلى رفع العقوبات الدولية عن الجمهورية الإسلامية. لكن النظر إلى الواقع يؤدّي إلى الإستنتاج أن هناك رغبة غربية بعدم تقوية إيران إقتصادياً.

يُخبرنا التاريخ أن الإقتصاد الإيراني كان من أكثر الإقتصادات الإقليمية إزدهاراً في العام 900. وفي تلك الحقبة، تميّزت إيران بإنتاج القطن الذي دفع بالمُجتمع الإيراني إلى مستويات عالية من التطور، في ذلك الوقت حيث كان الريف مُزدهراً وبالتالي تحوّلت مناطق ريفية واسعة إلى مدن. ومع إزدياد المدخول، بدأ كثير من الإيرانيين بالاهتمام بالشق الثقافي والاجتماعي. لكن هذا الواقع لم يستمرّ مع موجة الصقيع التي ضربت شمال البلاد خلال القرن الحادي عشر، وبالتالي تراجعت صناعة القطن بشكل كبير حتى اختفت من مناطق عدة. خلال هذه الفترة كانت إيران عرضة للغزو والاحتلال، وفي كل مرّة كان المُحتلّون يسرقون ويُدمرون ما لا يستطيعون سرقته.

لم تستطع إيران النهوض إقتصادياً إلّا في القرن التاسع عشر، إذ أخذت الزراعة حيّزاً مهماً في التطور الذي شهدته إيران مع تطور زراعة التمر والفستق والزهور والخضرة والفواكه. إلا أن النهضة الحقيقية كانت بين خمسينات القرن الماضي وصولاً إلى أواخر السبعينات، إذ شهد الإقتصاد الإيراني تحوّلاً لافتاً مع نمو القطاع الصناعي ترافق مع سياسية حماية الصناعة الوطنية. وعلى رأس الصناعات كانت صناعة الحديد، الأسمدة، الإسمنت، النسيج، الزيوت، الأدوية، الصناعة الكيميائية... وغيرها، وإستطاعت إيران تصنيع سياراتها الخاصة.

وإستطاعت إيران الإستفادة من الثروة الغازية البالغة 34 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي (المرتبة الثانية عالمياً)، ومن الثروة النفطية المُقدّرة بـ154 مليار برميلن أي ما يوازي 9% من الإحتياط العالمي من النفط. وأصبح المدخول الأساس في مالية الدولة يأتي من هذا القطاع.

هذا الحلم الإيراني توقف في أواخر سبيعينات القرن الماضي (1978) قبل الثورة الإسلامية. ولم تفلح الثورة في إعادة الإقتصاد إلى السكّة الصحيحة، فحرب إيران– العراق التي إستمرت نحو عشر سنوات، أدّت إلى تراجع إنتاج النفط، وهو العنصر الأساس في المداخيل. والإنفاق الكبير على الأسلحة خلال هذه الفترة تسبب بتراجع الإستثمارات الداخلية وتآكل الماكينة الإقتصادية، وإزداد هذا التآكل مع بدء فرض العقوبات.

رزحت إيران تحت العقوبات الدولية خلال عقود أدّت إلى ضرب إقتصادها عبر تراجع الإستثمارات، خصوصاً في قطاع الطاقة حيث أدّى هذا الأمر إلى إستنزاف في القدرة الإنتاجية للنفط والغاز في إيران مع معدلات تراجع عالية لآبارها بنسبة 12% وتراجع معدلات الإسترداد الفعلي التقني بنسبة 27%. والحكومة الإيرانية التي تُسيطر على أكثر من 80% من الصناعة في البلاد، أخذت تنفق المداخيل على التسلّح العسكري. وبما أن العقوبات بدأت تطالها، غابت الإستثمارات الأجنبية المُباشرة عن الإقتصاد الإيراني إلى درجة أصبحت الماكينة الإقتصادية الإيرانية تعتمد أكثر على المبادرات الفردية للتمويل بدل إعتمادها على الإستثمارات الأجنبية. أما المصارف الإيرانية فقد أخذت بتمويل مشاريع الدولة في البدء، لكن ومع شحّ المداخيل تراجعت هذه المصارف إلى درجة كبيرة مقارنة بنظرائها الإقليميين.

الأعوام التي تلت لم تكن أفضل لإيران التي وصلت إلى ذروة التراجع الإقتصادي في عامي 2012 و2013، ويُعتبر هذا الأمر السبب الأساسي الذي دفع النظام الإيراني إلى توقيع أول إتفاق على البرنامج النووي في تشرين الثاني من العام 2013.

الوعود الكثيرة التي تلقتها إيران دفعتها إلى التوقيع في آب 2015 على الاتفاق النهائي، وعلى رأس هذه الوعود تحرير أموال إيران في المصارف الغربية، رفع الحظر على التعامل التجاري مع إيران، إعادة العلاقات الإقتصادية إلى طبيعتها.

وبالفعل قسم من هذه الوعود تمّ تحقيقه، إلا أن الأساس هو أن الإستثمارات والتبادل التجاري لم يتغيرا. فإيران اليوم بحاجة إلى تأهيل بنيتها التحتية من طرقات وشبكات الإتصالات، وتمويل للمشاريع الإقتصادية في القطاع النفطي والمصرفي والتكنولوجي... وكل هذا يتطلّب إستثمارات تُقدّر بـ50 مليار دولار، لم ترَ إيران منها دولاراً واحداً.

إلى ذلك، أكد وزيرا الصناعة والداخلية الإيرانيان أن الوضع الإقتصادي في بلدهما ما زال "غامضاً" رغم زيارة أكثر من 1000 مُمثل لشركات ومُستثمرين عالميين طهران، وذلك أن أياً من هذه الزيارات لم تُترجم بإستثمارات فعلية.

إيرانياً، قامت الديبلوماسية الإيرانية بمجهود هائل في العالم أجمع مع هدف واضح لم يُخفه الإيرانيون، ألا وهو زيادة التبادل التجاري الثنائي مع الدول ثلاثة أضعاف. لكن النتيجة لم تكن على المُستوى المطلوب أو حتى المقبول.

إيران تمتلك قدرة إقتصادية هائلة غير مُستثمرة تتمثّل بثرواتها الطبيعية وشبابها الذين يُشكّلون العنصر الأساسي في المُجتمع الإيراني. كما أن حجم السوق الإستهلاكي المُتمثل بأكثر من 80 مليون نسمة يسمح بالتخطيط لمشاريع ناجحة في حال توفر التمّويل.

الواضح أن الإستثمارات الأجنبية لن تأتي، ويعود السبب إلى تخوّف الغرب من أن تعمد إيران إلى إستخدام المداخيل التي ستربحها في عمليات التسلح التقليدي (أو غير التقليدي). وما يدفع الغرب إلى هذا الإعتقاد أن إيران قامت في شهر آذار الماضي بتجارب عدة لإطلاق صواريخ بالستية قصيرة ومُتوسطة المدّى.

أضف إلى ذلك أن الصراع الإيراني– السعودي والمواجهات العسكرية بينهما خصوصاً في اليمن وبشكل غير مباشر في سوريا، دفع السلطات السعودية إلى الضغط على حلفائها للتمهّل بأي تعاون إقتصادي مع إيران. كذلك إسرائيل التي تستمر بالتشكيك بنوايا النظام الإيراني وإتهامه بالمناورة مع المُجتمع الدولي.

فهل يكون هدف الغرب إحداث تغيير داخلي للنظام الإيراني عبر اللعب على الوضع الاجتماعي، وخصوصاً بطالة الشباب؟