أم أدهم... حكاية إمرأة تصنع الرجال

علي علوش - خضر حسان
السبت   2015/03/07
نظرة وخطوط وجه تعكسان معنى الإصرار على العمل رغم التعب (علي علوش)

تنغمس أصابعها بين حبات التراب، تقلّبها برويّة، لا تقسو عليها، وكيف تفعل ذلك، وقد أصبح بينها وبين التراب خبز وملح وعرق ودم وتعب.

إنها أم أدهم، تبدأ علاقتها مع التراب والعمل في الحقل من كنيتها، فهي والدة لشاب يدعى أدهم، سمي على إسم المناضل الوطني أدهم خنجر، وهي إحدى حبات عنقود لا يعرف سوى العمل والكد والنضال الوطني. فهي تتحدر من عائلة "نجدي" في بلدة صريفا الجنوبية.

رحلة العمل مع أم أدهم لا توثق تاريخ اليد العاملة النسائية ولا تعكس تعب العمال فحسب، بل إن كل دقيقة في يومياتها، تحكي حكايات عن المرأة العاملة وتضحياتها وحجم مساهمتها في الإنتاج الوطني، وفي الدائرة الإقتصادية للبلاد. لكن المخجل في هذه الصورة، هو غياب التقدير الرسمي لأمثال أم أدهم، اللواتي يجلسن في الظل، ينتجون ويسهرون على كل لقمة خبز وشتلة تبغ وحبة زيتون، لتصل الى أفواه المستهلكين في كل لبنان، لقمة سهلة لا يعرف آكلوها حجم المعاناة التي تحملها.

تجربة أم أدهم كإمرأة عاملة توغل بعيداً في السنوات، منذ ان كانت طفلة في بيت العائلة. لكن الإضاءة على جزء من حياتها، يكفي لإعطاء نموذج متواضع عن حجم إسهامها في الحركة اليومية للإنتاج، ويكفي لنقل المعنى الحقيقي لتقصير الدولة تجاه القطاعات الإنتاجية، وتجاه أهل هذه القطاعات.

إمتهنت أم أدهم زراعة التبغ منذ 25 عاماً، وفق ما تقوله لـ "المدن"، ومنذ ذلك التاريخ وهي تستيقظ عند الساعة الثالثة فجراً. وتمتد الرحلة اليومية لأم أدهم في زراعة "الدخان" - كما هو معروف في اللهجة العاميّة - من شهر كانون الثاني الى الفترة بين أيلول وتشرين الأول. ويبدأ العمل في زراعة مشاتل التبغ من نصف كانون الثاني تقريباً، وينسحب العمل الى أيار، وخلال هذه الفترة تحتاج المشاتل الى عناية دائمة تشمل رش المبيدات واقتلاع الأعشاب الضارة لشتلة التبغ، اقتلاعاً يدوياً، الأمر الذي يتطلب عملاً مضنياً، إنحناءً أو بجلوس القرفصاء، وتُنجز هذه المهمة قبل طلوع الشمس. لتأتي بعد ذلك، فترة قطف أوراق التبغ وشكّه وتحضيره للتجفيف والكبس، وتكون هذه الفترة بين أيار وآب، أما التسليم لإدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية - الريجي - فيكون بين أيلول وتشرين الأول. هذه الرحلة تشمل خدمات أقل ما يقال عنها أنها "أشغال شاقة"، فالإستيقاظ خلال فترة "القطيفة" بين أيار وآب، يكون يومياً عند الساعة الثالثة فجراً، ومدة القطاف تكون حوالي 5 ساعات، قبل أن "تحمى الشمس"، ويصبح القطاف صعباً بفعل الحرارة المرتفعة. يلي ذلك "شك الدخان" ويمتد من فترة الخروج من الحقل الى حوالي الساعة الثانية أو الثالثة بعد الظهر "بحسب المساعدة"، من بعض الأقارب والجيران.

في فترة تعشيب المشاتل تنعم أم أدهم بالرفاهية، والرفاهية هنا، تعني الإستيقاظ عند الخامسة فجراً - بدلاً من الثالثة - والتحضير لـ "خبز المرقوق والتعشيب". وهنا حكاية جديدة تكتبها المرأة العاملة في صريفا، وتحديداً في الدائرة الصغرى التي تشمل أم أدهم وسيدتين أخريين، إذ يقمن بتحضير كمية من العجين وخبزها على "الصاج". وحكاية الخبز تتكرر كل 15 يوماً تقريباً، بشكل دوري بين السيدات الثلاث، وخلالها، تجتمع النسوة في المكان المعتاد للخبز، يحضّرن الخبز ضمن جلسة لا تخلو من الفكاهة والمرح والأحاديث عن العمل والقرية والأوضاع المعيشية. وبين الكلام والضحك، تراقص إحداهنّ العجين بين راحتيها، فيتمدد، وتضعه على "الكارة" وهي ككيس من القماش المدوّر السميك، تسمح بوضع العجين على الصاج دون إحراق الخبّاز ليديه، فيما تعمل أخرى على تمديد العجين على "الكارة" بشكل متساوي الأطراف وتضعه على الصاج، ثم ترفعه خلال ثوانٍ معدودة، أما الطرف الثالث، فيعمل على إبقاء النار مشتعلة بوتيرة واحدة داخل الصاج، فقوة النار تلعب الدور الأساسي في إنجاح الخبز أو إحراقه. ومع كل رغيف تُنسج ألف حكاية لمظلومية المرأة العاملة في لبنان، ومع كل رغيف، تكتب أم أدهم مزيداً من المذكرات عن أوضاع المرأة العاملة، لكن لا أحد من المسؤولين يقرأ تلك المذكرات، فتبقى حيث هي مع العجين والتبغ، في القبو الصغير المشيد بحجارة صخرية قديمة.

وعملية الخَبْز رحلة متكاملة بالنسبة لأم أدهم، أو قُل هي طقوس حياة، تشمل تحضير "الترويقة" في المنزل وأخذها الى القبو حيث يجتمع بعض الأقارب، ومن صودف مروره من الجيران، يتناول فطوره بخبز الصاج الساخن. أما من لا يملك وقتاً لمشاركة المائدة، فيكفيه ان يمر من أمام باب القبو، ليحصل على بعض الخبز. واللافت، ان أم أدهم وصديقاتها، هنّ من بين قلّة نادرة في البلدة والجوار، يخبزن على الصاج.

ولكي لا يبقى عمل أم أدهم وصديقاتها في الظل، وثّق الزميل علي علّوش لجزء من حياة هؤلاء النسوة، عبر رصد تفاصيل عملهن. فحياتهن ليست حالة إجتماعية يراقبها الباحثون كعيّنة، بل هي صورة مصغّرة عن تعب اليد العاملة النسائية التي لا تجد من يقول لها في يوم المرأة العالمي - على الأقل - كلمة شكرٍ، أو يلتفت إليها ليعرف ان ما يستهلكه اللبنانيون ويدفعون ثمنه أموالاً باهظة، تنتجه يد عاملة لطيفة وهادئة، لكنها تضجّ بالتعب والإنتاجية.