أم كلثوم ونزار قباني...لمرة أولى وأخيرة في "طريق واحد"
حتى وقت قريب كان خبراء الدعاية في العالم يؤكدون على تفوق الآلة الدعائية الإسرائيلية دائماً على حساب آلة الدعاية الفلسطينية التي كانوا يصفونها بالتشنج وعلو النبرة مع الغلو في مهاجمة الطرف الآخر من دون إبراز الحقائق التى بإمكانها إحداث الأثر المطلوب في المتلقي، وذلك بحسب الدراسة التى قام بها مؤخراً معهد فرانكفورت للدراسات على خلفية ما يجري حالياً في غزة. لكن الدراسة ذاتها التي أقرت بذلك، عادت وأردفت بأن الفلسطينيين استفادوا كثيرا من أخطاء الماضي، وحققوا تقدماً في استخدام أساليب الدعاية الحديثة وبخاصة توظيف مواقع التواصل الاجتماعي، ورصدت تحولاً مهماً في قدرة منتسبي تلك المواقع على التأثير في المتلقي العربي والغربي على السواء، من خلال المئات من مقاطع الفيديو التي تعرض هول ما جرى في غزة من مجازر، لا سيما بحق الأطفال والنساء، وأشارت إلى إفراط الآلة الفلسطينية في الاستفادة من تأثير الأطفال على المتلقي، وضربت لذلك مثالاً بالفيديو المنتشر للطفل الفلسطيني المقيم بالأردن الذي يغني بصوت مؤثر قصيدة "أصبح عندي الآن بندقية إلى فلسطين خذوني معكم" مصحوبة بمشاهد الشتات الفلسطيني والجرائم الإسرائيلية منذ النكبة وحتى أحداث غزة، ولا سيما في الشطر الشعري الذي استبدل الطفل كلماته من "عشرون عاماً وأنا أبحث عن أرض وعن هوية" بحسب ما كتبه الشاعر نزار قباني العام 1968 إلى "ثمانون عاماً وأنا أبحث عن أرض وعن هوية" كناية عن استمرار المأساة الفلسطينية على مدى الأعوام التي قاربت الثمانين.
وقد أعادتني هذه الملحوظة البحثية إلى ظروف وملابسات تلك القصيدة التي بعثت حية من جديد على صوت هذا الطفل رغم مرور نحو خمسة وخمسين عاماً على اللحظة التي شدت بها أم كلثوم القصيدة، من ألحان محمد عبد الوهاب في شباط 1969، لا سيما أن كل المعلومات المتاحة لا تتحدث إلا عن الدوافع التي أدت بنزار قباني إلى كتابة القصيدة في آذار 1968 على أثر معركة الكرامة في مخيم الرمل حين أغارت إسرائيل على مواقع الفدائيين. في هذه الأجواء، كتب قباني قصيدته المفعمة بالأمل، بعدما كان اليأس قد تملكه منذ هزيمة حزيران 1967، لكن أحداً لم يذكر كيف وصلت القصيدة إلى أم كلثوم؟ وما هي ملابسات تنفيذها حتى ظهرت إلى النور بعد عام تقريباً من كتابة قباني للقصيدة؟
في 26 آذار 1968، وبعد أيام من كتابة قباني لقصيدته، أجرت معه مجلة "الكواكب" حواراً قال فيه: "من أحلامي الجميلة أن تصدح أم كلثوم بإحدى أغنياتي"، وكأنه كان يلقي بكرة أحدث قصائده في ملعب كوكب الشرق، وقد قال الصحافي سيد فرغلي الذي عاصر هذه الفترة، أنه نقل تلك الرغبة إلى أم كلثوم عقب نشر الحوار، فكان جوابها: وأنا أيضا أحب شعر نزار، لكن لم يحن الوقت بعد، وكان الشاعر السوري ينظر بشيء من الغبطة إلى تجارب أم كلثوم المتعاقبة مع الشعراء العرب وغير العرب، ويتمنى أن يزين صوت أم كلثوم لائحة قصائده المغناة. وفي كانون الثاني 1969، وكان في طريقه إلى العاصمة السودانية الخرطوم، قرر قباني أن يعرج على القاهرة في زيارة قصيرة وفي نفسه شيء، وفور وصوله إلى مصر هاتف أم كلثوم في بيتها عاقداً العزم على تهنئتها على حفلاتها المتتالية لصالح المجهود الحربي، وصودف أن ردت عليه بنفسها حسبما صرح لمجلة "الموعد" بتاريخ 27/2/1969: "قلت لها: سيدتي لقد وجدت أن زيارة القاهرة من دون تحيتك لا تعتبر زيارة"، فأجابته أم كلثوم: "لكن التحية عزيزي الشاعر لا تتم بواسطة الهاتف، فهل تقبل الدعوة على الشاي؟".
ويمضي قباني في سرد ما جرى في تلك المقابلة بعدما استقبلته أم كلثوم، وأخذت تحدثه عن زيارتها للسودان قبل شهر، ثم طلبت منه أن يسمعها شيئاً من شعره، فأسمعها إحدى قصائده القديمة، ثم طلبت منه أن يسمعها أحدث قصائده، فأخرج نزار ورقة صغيرة من جيبه وأخذ يلقي: أصبح عندي الآن بندقية، إلى فلسطين خذوني معكم، إلى ربى حزينة كوجه مجدلية، إلى القباب الخضر والحجارة النبية. استوقف أم كلثوم تعبير الحجارة النبية وأثنت عليه، ثم دعته ليكمل: عشرون عاما وأنا أبحث عن أرض وعن هوية، أبحث عن بيتي الذي هناك، وعن وطني المحاط بالأسلاك، أبحث عن طفولتي، عن رفاق حارتي، عن كتبي، عن صوري، عن كل ركن دافئ وكل مزهرية، إلى آخر القصيدة التي تعنون أحياناً بـ"طريق واحد" نسبة إلى نهاية القصيدة التي تقول: "تقدموا تقدموا. إلى فلسطين طريق واحد يمر عبر فوهة بندقية". وإزاء تفاعل أم كلثوم مع القصيدة وحديثها عن الفدائيين الفلسطينيين الذين يحملون قضيتهم على أكتافهم ويفترشون الأسلاك والغبار، اقترح نزار عليها أن ينقل لها القصيدة بخط كبير حيث اعتاد على تدوين قصائده بخط صغير، فردت أم كلثوم: قبل كل شيء، مَن تقترح يلحن هذه القصيدة؟ فسرّ الرجل في نفسه وهو يدرك أنها قررت غناء القصيدة، وأن حلمه القديم على وشك التحقق، لكنه كان من اللباقة واللياقة أن قال لها: سيدتي، كما ترين أنت، أنت التي ترين مثل هذه الأمور ولا رأي لنا قبل رأيك، فقالت: أنا أعتقد أن عبد الوهاب عشق تلحين القصائد، فرد نزار: لا شك في هذا، إن رأيك هو الصواب، عبد الوهاب يلحن الشعر ويفهمه.
ويكمل قباني في حوار للإذاعة السورية بثته في مطلع السبعينيات وأعادت بثه عند رحيل الشاعر في 30 نيسان 1998، أنه شعر بالسعادة وهو يرى أم كلثوم تمسك بالهاتف وتتصل بعبد الوهاب طالبة منه المجيء إلى بيتها ليستمع معها إلى قصيدة نزار الجديدة. تفاعل عبد الوهاب مع القصيدة، وسأل عن بعض التفاصيل وهو يستمع إلى اقتراحات أم كلثوم، وغادر نزار فيللا كوكب الشرق استعداداً للسفر إلى السودان، وفي طريق عودته من السودان عرج ثانية على القاهرة ليجد عبد الوهاب قد انتهى من تلحين "أصبح عندي الآن بندقية" ووزعها الموسيقار اليوناني أندريا رايدر الذي قاد أوركسترا مكونة من أكثر من 60 عازفاً، وقد جاءت الأغنية فى تنفيذها وغنائها خروجاً على النسق الموسيقي الذي اعتادت عليه أم كلثوم فى أغنياتها العاطفية بل والوطنية، إذ ابتعدت تماماً عن التطريب الشرقي ونحت نحو التعبير اللحني والأدائي الأقرب إلى البناء الغربي متأثرة ببصمات أندريا رايدر وبرغبتها في أن يغلب الحماس على الأغنية التي سعت لأن تكون مثمنة لهجمات المقاومة الفلسطينية ومشجعة على المزيد منها. فجاءت – في يقيني- أفضل أغنيات أم كلثوم من حيث الفخامة وتماسك البناء الموسيقي.
الملفت أن المستمع العربي فوجئ العام 1985 وبعد عشر سنوات من رحيل كوكب الشرق بظهور الأغنية بصوت عبد الوهاب، ولما كانت أم كلثوم ترفض تماماً في كل الألحان التي قدمها لها موسيقار الأجيال أن يقوم بغنائها لاحقاً، ولما كان عبد الوهاب عند غنائه لمعظم الأغنيات التي قدمها لغيره، مثل نجاة وعبد الحليم وفايزة أحمد، يفضل غناءها بمصاحبة آلة العود فقط، فقد سألت في منتصف التسعينيات مجدي العمروسي، مدير شركة صوت الفن وصديق عبد الوهاب المقرب، عن أسباب خروج كل من أم كلثوم وعبد الوهاب عما اعتادا عليه؟ فأجابني أنه كان حاضراً على تسجيل هذه القصيدة بالإذاعة المصرية، وأن مهندس الصوت (لا يذكر إن كان زكريا عامر أو نصري عبد النور) كان يجرب أسلوب الخطوط المنفصلة في التسجيل الصوتي (تعدد التراكات) الذي لم تكن مصر قد عرفته بعد، وأنه كان قد انتهى من تسجيل الفرقة الموسيقية، فأراد أن تدخل أم كلثوم لتضع صوتها على الموسيقي المسجلة سلفاً، فرفضت بشدة كعادتها مع كل جديد، ولم تقتنع إلا بعدما دخل عبد الوهاب ووضع صوته على الموسيقى ذاتها، لكنها لم تكررها بعد ذلك، إذ كانت ترى أن هذا الأسلوب لا يناسب الغناء العاطفي القائم على التجانس والتأثير المتبادل بين المطرب وفرقته الموسيقية، وأضاف أنه احتفظ لعبد الوهاب بتسجيل الأغنية لمدة عشر سنوات، ثم اقترح عليه أن يضمها إلى أحد ألبومات وطنياته، وهو ما حدث بالفعل.
بقيت الإشارة إلى أن لقاءً آخر جمع بين أم كلثوم ونزار قباني، لكنه صادف ظروفاً جعلته مبتوراً غير مكتمل، وأعني قصيدة "ندي خطاب عاجل إليك" التي كتبها نزار في رثاء عبد الناصر في أيلول 1970، وقام رياض السنباطي بتلحينها، وغنتها أم كلثوم وسجلتها بالفعل، لكنها عادت وطلبت من الإذاعة المصرية عدم بثها، حتى أفرجت عنها شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات قبل سنوات. وإذا كان قباني قد صرح بأن حجب أم كلثوم لقصيدة رثاء عبد الناصر التي لم يسمعها الناس في حينها، كان لأسباب لا يعرفها، فإن الإعلامي وجدي الحكيم الذي كان مسؤولاً عن تسجيل الأغنية كشف بأن كوكب الشرق طلبت منه سحب الأغنية وعدم إذاعتها احتراماً للرئيس السادات الذي تولى الحكم خلفاً لعبد الناصر، وأنها أرادت بذلك عدم التشويش عليه في بداية فترة حكمه على حد قول وجدي الحكيم. وفي كتاب "آخر كلمات نزار"، للكاتب عرفان نظام الدين، تحدث قباني عن تجربته مع أم كلثوم قائلاً أنها كانت محدودة، وأنها اعتذرت عن اللقاء الثالث الذي كان من المفترض أن يجمعهما في قصيدة "أغضب كما تشاء" التي غنتها أصالة في ما بعد من ألحان حلمي بكر، وقال قباني نقلاً عن كوكب الشرق: "إن أم كلثوم لا يمكن أن تقول للرجل هذا الكلام ثم تسامحه، أنا كنت أوريله نجوم الظهر لو خانني أو لعب بديله".
وهكذا قدر لقصيدة "أصبح عندي الآن بندقية" أو "طريق واحد" أن تكون اللقاء الوحيد المكتمل بين شعر نزار قباني وصوت أم كلثوم.
ويكمل قباني في حوار للإذاعة السورية بثته في مطلع السبعينيات وأعادت بثه عند رحيل الشاعر في 30 نيسان 1998، أنه شعر بالسعادة وهو يرى أم كلثوم تمسك بالهاتف وتتصل بعبد الوهاب طالبة منه المجيء إلى بيتها ليستمع معها إلى قصيدة نزار الجديدة. تفاعل عبد الوهاب مع القصيدة، وسأل عن بعض التفاصيل وهو يستمع إلى اقتراحات أم كلثوم، وغادر نزار فيللا كوكب الشرق استعداداً للسفر إلى السودان، وفي طريق عودته من السودان عرج ثانية على القاهرة ليجد عبد الوهاب قد انتهى من تلحين "أصبح عندي الآن بندقية" ووزعها الموسيقار اليوناني أندريا رايدر الذي قاد أوركسترا مكونة من أكثر من 60 عازفاً، وقد جاءت الأغنية فى تنفيذها وغنائها خروجاً على النسق الموسيقي الذي اعتادت عليه أم كلثوم فى أغنياتها العاطفية بل والوطنية، إذ ابتعدت تماماً عن التطريب الشرقي ونحت نحو التعبير اللحني والأدائي الأقرب إلى البناء الغربي متأثرة ببصمات أندريا رايدر وبرغبتها في أن يغلب الحماس على الأغنية التي سعت لأن تكون مثمنة لهجمات المقاومة الفلسطينية ومشجعة على المزيد منها. فجاءت – في يقيني- أفضل أغنيات أم كلثوم من حيث الفخامة وتماسك البناء الموسيقي.
الملفت أن المستمع العربي فوجئ العام 1985 وبعد عشر سنوات من رحيل كوكب الشرق بظهور الأغنية بصوت عبد الوهاب، ولما كانت أم كلثوم ترفض تماماً في كل الألحان التي قدمها لها موسيقار الأجيال أن يقوم بغنائها لاحقاً، ولما كان عبد الوهاب عند غنائه لمعظم الأغنيات التي قدمها لغيره، مثل نجاة وعبد الحليم وفايزة أحمد، يفضل غناءها بمصاحبة آلة العود فقط، فقد سألت في منتصف التسعينيات مجدي العمروسي، مدير شركة صوت الفن وصديق عبد الوهاب المقرب، عن أسباب خروج كل من أم كلثوم وعبد الوهاب عما اعتادا عليه؟ فأجابني أنه كان حاضراً على تسجيل هذه القصيدة بالإذاعة المصرية، وأن مهندس الصوت (لا يذكر إن كان زكريا عامر أو نصري عبد النور) كان يجرب أسلوب الخطوط المنفصلة في التسجيل الصوتي (تعدد التراكات) الذي لم تكن مصر قد عرفته بعد، وأنه كان قد انتهى من تسجيل الفرقة الموسيقية، فأراد أن تدخل أم كلثوم لتضع صوتها على الموسيقي المسجلة سلفاً، فرفضت بشدة كعادتها مع كل جديد، ولم تقتنع إلا بعدما دخل عبد الوهاب ووضع صوته على الموسيقى ذاتها، لكنها لم تكررها بعد ذلك، إذ كانت ترى أن هذا الأسلوب لا يناسب الغناء العاطفي القائم على التجانس والتأثير المتبادل بين المطرب وفرقته الموسيقية، وأضاف أنه احتفظ لعبد الوهاب بتسجيل الأغنية لمدة عشر سنوات، ثم اقترح عليه أن يضمها إلى أحد ألبومات وطنياته، وهو ما حدث بالفعل.
بقيت الإشارة إلى أن لقاءً آخر جمع بين أم كلثوم ونزار قباني، لكنه صادف ظروفاً جعلته مبتوراً غير مكتمل، وأعني قصيدة "ندي خطاب عاجل إليك" التي كتبها نزار في رثاء عبد الناصر في أيلول 1970، وقام رياض السنباطي بتلحينها، وغنتها أم كلثوم وسجلتها بالفعل، لكنها عادت وطلبت من الإذاعة المصرية عدم بثها، حتى أفرجت عنها شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات قبل سنوات. وإذا كان قباني قد صرح بأن حجب أم كلثوم لقصيدة رثاء عبد الناصر التي لم يسمعها الناس في حينها، كان لأسباب لا يعرفها، فإن الإعلامي وجدي الحكيم الذي كان مسؤولاً عن تسجيل الأغنية كشف بأن كوكب الشرق طلبت منه سحب الأغنية وعدم إذاعتها احتراماً للرئيس السادات الذي تولى الحكم خلفاً لعبد الناصر، وأنها أرادت بذلك عدم التشويش عليه في بداية فترة حكمه على حد قول وجدي الحكيم. وفي كتاب "آخر كلمات نزار"، للكاتب عرفان نظام الدين، تحدث قباني عن تجربته مع أم كلثوم قائلاً أنها كانت محدودة، وأنها اعتذرت عن اللقاء الثالث الذي كان من المفترض أن يجمعهما في قصيدة "أغضب كما تشاء" التي غنتها أصالة في ما بعد من ألحان حلمي بكر، وقال قباني نقلاً عن كوكب الشرق: "إن أم كلثوم لا يمكن أن تقول للرجل هذا الكلام ثم تسامحه، أنا كنت أوريله نجوم الظهر لو خانني أو لعب بديله".
وهكذا قدر لقصيدة "أصبح عندي الآن بندقية" أو "طريق واحد" أن تكون اللقاء الوحيد المكتمل بين شعر نزار قباني وصوت أم كلثوم.