غريتا غيرويغ.. من السينما المستقلة إلى التيار الرئيس
يواصل فيلم الكوميديا والدراما "باربي" للمخرجة الأميركية غريتا غيرويغ تصدُّر إيرادات شباك التذاكر العالمي عقب طرحه في صالات السينما حول العالم قبل ثلاثة أسابيع. وتجاوزت إيرادت الفيلم، يوم الجمعة الماضي، عتبة المليار دولار في شباك التذاكر العالمي، في اليوم ذاته الذي احتفلت فيه مخرجته بعيد ميلادها. وبذلك أصبحت غيرويغ المخرجة صاحبة أفضل انطلاقة في شبّاك التذاكر متجاوزة بذلك فيلم "كابتن مارفل" للمخرجة آنا بودن من العام 2019. من أيقونة للسينما المستقلة إلى مخرجة تيار رئيس تجني الأرباح وتسبح في الأضواء، تحوّلات اجتازتها الممثلة والمخرجة الأميركية تستحق الالتفات.
قبل أيام قليلة، نشر زميل أرجنتيني في "تويتر" سلسلة تغريدات وصور تستعيد مشاركة غريتا غيرويغ في مهرجان مار ديل بلاتا السينمائي الأرجنتيني لعام 2008. في إطار نسخته الثالثة والعشرين، في تشرين الثاني/نوفمبر من ذلك العام، حضرت غيرويغ، التي كانت في الخامسة والعشرين من عمرها، رفقة المخرج باري جينكينز (سافر إلى المهرجان لعرض فيلمه الأول "دواء للميلانكوليا") والمخرج آرون كاتز (لحضور عرض فيلمه "حفلة رقص").
كانت أوقات رائعة تعيشها تلك الحركة داخل السينما الأميركية المستقلة المعروفة باسم "مامبل كور" Mumblecore (أفلام منخفضة الموازنة مع شخصيات خجولة وميلانكولية ونسبة عالية من الحوار غير المنطقي من حيث المبدأ)، وغيرويغ، التي استغلّت الرحلة لمرافقة عروض فيلميها "ليالي ونهايات أسبوع"، الذي شاركت في إخراجه وبطولته مع جو سوانبرغ، و"باغهيد"، وهو فيلم من إخراج الأخوين دوبلاس مثلّت فيه؛ كانت أيضاً جزءاً من لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الأرجنتينية إلى جانب، على سبيل المثال، المخرج الإسباني ألبرت سيرا.
حينها، استعاد كاتز وجينكينز فترة كانا مفلسين ويتضوران جوعاً. بينما تلقّت غيرويغ أموالاً أرجنتينية كبدلٍ يومي للتجوّل في المدينة الساحلية، ودعت صانعي الأفلام "اليائسين" لتناول الطعام والشراب ببيزواتهم (عملة الأرجنتين). بعد عدة سنوات، فاز جينكينز بجائزة أوسكار في العام 2017 عن فيلمه "مونلايت"، وواصل كاتز إنجاز أفلامه الصغيرة المستقلة، ولكن الشخص الذي صنع تحوّلاً لافتاً هي غيرويغ.
تلك الفتاة العشرينية الجذّابة التي فتنت جميع الحاضرين في حفلات تلك النسخة من "مار ديل بلاتا"، تدخل اليوم في أربعينياتها، وهي حامل بما سيكون طفلها الثاني، وقد حطّمت للتوّ العديد من الأرقام القياسية (أفضل بداية في العام وأفضل افتتاحية على الإطلاق لفيلم أخرجته امرأة) بفيلمها "باربي"، المقطورة الوردية بقيادة مارغو روبي وريان غوسلينغ، والذي شاركت في كتابته مع شريكها، الكاتب والمخرج الشهير نواه بومباك، الذي مثّلت من أجله في أفلام مثل "غرينبرغ" (2010)، و"فرانسيس ها" (2012)، و"عشيقة أميركا" (2015)، و"ضوضاء بيضاء" (2022). الأرقام الأولى لـ"باربي" في عطلة نهاية الأسبوع صادمة: 155 مليون دولار في المسارح الأميركية وحدها و182 مليون دولار في بقية العالم بإجمالي 337 مليون دولار.
"ملهمة المامبل كور" و"ملكة مار ديل بلاتا" اليوم ليست ممثلة مرموقة فحسب، بل، قبل كل شيء، مخرجة مُنادى بها ومحبوبة ومرغوبة كثيراً وهي آخذة في الصعود في هذه الصناعة. بعد تلك الأوبرا الرباعية التي قدّمتها في مار ديل بلاتا، ستأتي السيرة الذاتية "ليدي بيرد" (2017)، التي حصلت على خمسة ترشيحات لجوائز الأوسكار من بين عشرات الجوائز الأخرى؛ ثم "نساء صغيرات" (2019)، نسختها من الرواية الشهيرة للكاتبة لويزا ماي ألكوت التي حصلت على ستة ترشيحات أوسكار وفازت بجائزة تصميم الأزياء؛ والآن مع "باربي" الذي جعل اسمها على كلّ لسان أكثر من أي وقت مضى، ولكن في الوقت ذاته دون أن تخون نفسها فنياً وأسلوبياً، بل وحتى مع طبعها بصمة نسوية مُرّحب بها على أحد أكثر الرموز المعادية للنسوية.
بالأخذ في الاعتبار أن مشاريعها القادمة يمكن أن تكون فيلمين من ملحمة "سجلات نارينا" The Chronicles of Narnia لصالح "نتفليكس"، فمن المحتمل جداً أن نجد غرويغ صارت أقرب إلى الاستوديوهات الكبيرة من تلك البدايات المتقشّفة داخل السينما المستقلة. تحوّل شخصي وفنّي عميق.
هنا نظرة على أفلامها السابقة كمخرجة.
ليالي ونهايات أسبوع (2008، بالإشتراك مع جو سوانبرغ)
مثال ممتاز على سينما الـ"مامبل كور" mumblecore، الباكورة الإخراجية لغيرويغ، بالتعاون مع شريكها آنذاك جو سوانبرغ، تمثيلاً وإخراجاً، تتبع العلاقة الطويلة بين ماتي (غيرويغ) وجيمس (سوانبرغ) في نقطتين مختلفتين في علاقتهما. هو يعيش في شيكاغو وهي تعيش في نيويورك، ولقاءاتهما الجسدية لا تقلّ أهمية عن الحالات التي ينفصلان فيها. الفيلم، المصوّر بتنسيق فيديو منخفض الدقة وكاميرا محمولة يدوياً، كتقنية وأسلوب إبداعيين؛ يتجاهل العناصر المكوّنة للدراما الموجودة في الكوميديات الرومانسية التقليدية، ويقوم صانعاه بإنجازه من أجزاء، ومقاطع قصيرة، وطبقات تتراكم وتضيف لخلق قصة حبّ، وخيبة أمل، وفي النهاية، تحلّل وفناء (أم أن هناك فصلاً ثالثاً لم يُكتب أو يُصوَّر أبداً؟).
قالت المخرجة المستقبلية لـ"باربي" في مقابلة بمناسبة العرض الأول للفيلم: "عندما بدأنا التصوير، كانت الفكرة هي صنع فيلم عن زوجين سعيدين. لكننا سرعان ما أدركنا أننا نصنع فيلماً آخر. خضنا معركة كبيرة ولم نتحدث مع بعضنا البعض لمدة ثلاثة أشهر تقريباً. حدث الجزء الثاني من التصوير بعد عامٍ: بعد عامٍ في حياتنا وأيضاً في حياة الشخصيات".
ليدي بيرد (2017)
"تباً، يا أمّي"، تقول كريستين، الليدي بيرد، في بداية الفيلم الذي يحمل لقبها، قبل أن تفتح باب السيارة المتحرّكة وتلقي بنفسها على الرصيف دون قياس العواقب. قدّمت الممثلة سيرشا رونان أداءً مكرّساً، حيث قامت بتجسيد وبناء إحدى تلك الشخصيات التي لا تزال محفورة في الذاكرة. كريستين، التي يبدو أنها في السابعة عشرة من عمرها تحمل كل ثقل تاريخ العالم على أكتافها، تعيش العام الأخير من دراستها في المدرسة الثانوية كما لو كانت إحدى الناجيات من عدة معارك. الظهور الإخراجي الأول لغيرويغ بمفردها يأتي عرضاً نموذجياً للسينما المستقلة الأميركية، في إعادة صياغة ذكية ولمّاحة لنماذج سينمائية يمكن تمييزها بسهولة، تلك التي تسكن التقاليد السينمائية الأميركية: فيلم المدرسة الثانوية.
بفضل إنسانية بطلة القصّة، المبنية من إيماءات صغيرة غريبة الأطوار قليلاً، تمكّن الفيلم من وضع صور على الشاشة لمجالات وفئات اجتماعية. والنتيجة هي كوميديا حلوة ومرّة تمزج بين الكآبة والمرح والذكاء مع الخفة، العناصر ذاتها التي ستصبح جزءاً - بتنسيق آخر، وتحت أضواء أخرى وبموازنة أكبر بلا حدود - من مشروع غيرويغ التالي: اقتباس جديد لـ"نساء صغيرات".
نساء صغيرات (2019)
على عكس ما يحدث في معظم الاقتباسات السينمائية السابقة لرواية لويزا ماي ألكوت، والتي تفتح سردياتها بصور تساقط الثلوج في بلدة صغيرة في ولاية ماساتشوستس، خلال حرب قد تكون بعيدة جغرافياً ولكنها حاضرة جداً في الحياة اليومية للشخصيات؛ تختار غريتا غيرويغ مكاناً في نيويورك، بعد عدة سنوات من بداية الرواية، كخلفية للمشهد الأول من الفيلم. وبالطبع، يظلّ جوهر القصة كما هو: حكاية عن التمكين النسائي واكتشاف المرء لمكانه في العالم.
في المشهد إياه، تمكّنت جو، الثانية بين شقيقاتها الأربع، من بيع مُحرّر إحدى المجلات قصّة قصيرة من تأليفها، وإن كان ذلك تحت توقيع اسم مستعار، لحماية نفسها من الألسنة الشريرة قبل دخولها المفاجئ إلى حقلٍ لا تزال تطبعه القوانين الذكورية. بقية الأخوات - بيث، الخجولة والموسيقية؛ إيمي الصغيرة الجامحة؛ ميغ، الأكبر والأقرب إلى متابعة تقاليد وعادات المجتمع – يتوقفن بدورهن أيضاً، كلٌّ بطريقتها، عن كونهن فتيات ليصبحن نساء صغيرات.
في أول مشروع لها بموازنة كبيرة، حققت غيرويغ النجاح في مهمتّها وأكثر: العودة إلى نصّ أدبي خالد وحيّ لا يزال رغم كل التغييرات المجتمعية، والتأكيد على أن بعض الأشياء غير قابلة للتغيير. تقريباً.