"أوراق متساقطة" لآكي كوريسماكي.. سينما بسيطة وجميلة وخالدة

محمد صبحي
الخميس   2023/06/01
يكمل المخرج رُباعيته السينمائية عن الطبقة العاملة
ليست كل الأفلام الطويلة سيئة، ولا كل الأفلام القصيرة جيدة. هناك العديد من الأفلام الطويلة جداً في النسخة الأخيرة من مهرجان "كانّ" السينمائي، التي تبرّر مثل هذه المقدّمة، وفي المسابقة الرسمية للمهرجان يبدو أن المدة التي تتجاوز الساعتين كانت المعيار السائد للأفلام (أيضاً في العديد من العناوين خارج المسابقة، مثل فيلم مارتن سكورسيزي الجديد)؛ ما يجعل الـ83 دقيقة التي يأتي بها فيلم "أوراق متساقطة"(*)، نادرة، بل أقرب إلى بادرة تواضع (وحتّى بلسَم مُهدّئ) مقابل هيمنة تلك السينما "المهمّة"، وموضوعاتها الكبيرة والطويلة والاستفزازية والضخمة، التي يقع عليها الاختيار عادةً للمشاركة في أهمّ مهرجان سينمائي في العالم.

وإذا كان صحيحاً أن المبدع البارع هو مَن يصنع دائماً العمل نفسه، بحدّ أدنى من الاختلافات في كلّ مرة، أو، بسحب الافتراض السابق على السينما، أن كل فيلم جديد لسينمائي عظيم هو حلقة أخرى من فيلمه الأول الرائع؛ يمكن أن يكون الفنلندي آكي كوريسماكي النموذج المثالي للتدليل على صحّة الفرضية. فأعماله تتشابه تماماً (كما يحدث أيضاً مع الكوري غزير الإنتاج هونغ سانغ سو). لكن هذا التشابه لا يُترجَم ضجراً أو تكراراً مُمّلاً، لأن كل فصل جديد هو بمثابة إعادة تشغيل، لمّ شمل مع شخصيات لا يملك المتفرج إلا محبّتهم حتى في مآسيهم، وتبريراً لأبطال مضادين مثاليين سيمضون قدماً في حياتهم رغماً من كل الصعوبات والمِحن. لأنه في سينما كوريسماكي الإنسانية، واللطيفة، والودودة، والمتقدة؛ هناك دائمًا نصيب للخاسرين في الحبّ، والخلاص، والانتصار، حتى إن كان عابراً ومؤقتاً.


في فيلمه العشرين، "أوراق متساقطة"، نلتقي "آنسا" (ألما بويستي)، التي تعمل أولاً كمنسقّة رفوف في سوبرماركت، ثم تغسل الأطباق في حانة مهلهلة، وتكنس أحد المصانع في النهاية؛ و"هولابّا" (يوسي فاتانين)، مدمن على الكحول، يعمل أولاً في ورشة ثم في موقع بناء. كلاهما يعاني وحدة شديدة، وحرجاً، وخجلاً، لكنهما سيلتقيان في ليلة كاريوكي (الفيلم يشبه صندوق موسيقى، مع تشغيل عشرات الأغاني في الخلفية أو غنائها على الشاشة مباشرة)، وسيذهبان معاً لمشاهدة فيلم "الموتى لا يموتون" لجيم جارموش؛ وسيحاولان توحيد مساريهما وحياتيهما رغم كل شيء وأي شخص. باختصار، رجل وامرأة يشعران بالوحدة وعاطلان عن العمل، يلتقيان مصادفة في هلسنكي، ويحاولان بدء قصة حب.

مع تقّدم الفيلم سيظهر قليل من الأصدقاء (أبرزهم، اللطيف جداً هوتاري، الذي لعب دوره الممثل يان هوتياينن)، لكن يبدو أن قصّته لا تتسعّ إلا لهذين العاشقَين الغريبَين، اللذين سيتعيّن عليهما (خصوصاً هولابّا) التغلّب على سلسلة من الحوادث المؤسفة والتحدّيات والأشرار (رؤساء مستبدّين، وحرّاس أمن، ونصّابين). تتهيّأ الأمور لكوميديا تراجيدية لطيفة، على حدّ وصف صاحبها، تكمل ما يمكن اعتباره رباعية سينمائية عن الطبقة العاملة، إذا أضفناها إلى ثلاثية البروليتاريا التي أنجزها كوريسماكي في ثمانينيات القرن الماضي (تشمل أفلام "ظلال في الجنّة" 1986 و"آريال" 1988 و"فتاة المصنع" 1990).

كوريسماكي ليس دقيقاً جداً عندما يتعلّق الأمر بتكريم أبطاله السينمائيين (بريسون، أوزو، فيلّليني، غودار، شابلن)، لكنه يفعل ذلك بقلبٍ كبير ومحبّة فائضة حدّ أن المرء يغفر له بعض التوكيد الزائد (المرجع الأكثر إثارة للاهتمام، في الواقع، هو ذلك الخاصّ بفيلم "لقاء عابر"-1945 للمخرج ديفيد لين). الأمر نفسه ينطبق على اختياراته الموسيقية الانتقائية دائماً، والتي تتضمّن هذه المرة كارلوس غارديل مغنياً عن الحياة المريرة في مدن الصفيح، ومشهداً طويلاً في حانة تأخذ اسمها من مدينة يحبّها كوريسماكي كثيراً، بوينس آيرس.

قد يكون كل ما في "أوراق متساقطة" من مظهر، وجماليات، ومواقع، ومراجع زمنية، وأجهزة إلكترونية... يعود إلى 10 أو 20 أو حتى 30 عاماً مضت. ورغم ذلك، قرّر كوريسماكي أنه بمجرد أن تشغّل إحدى شخصياته جهاز الراديو الخاص بها (ذلك الترانزستور القديم) ستأتيها أخبار الغزو الروسي لأوكرانيا، لذلك من الواضح أن هذه الكوميديا التراجيدية الحلوة والمرّة المطعّمة ببضع لحظات من الفكاهة السوداء تحدث في أيامنا الحالية. والحقيقة أن مثل هذه التفاصيل لا يهمّ كثيراً، لأن سينما كوريسماكي، سينما التفاصيل الصغيرة والجماليات البسيطة؛ خالدة، وكلاسيكية، وعابرة للزمان، وما "أوراق متساقطة" سوى تأكيد جديد على مكانتها المميّزة والأساسية في تاريخ الفنّ السابع.

(*) فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم في الدورة الـ76 من مهرجان "كانّ".