المصنع الحكومي المصري والثقافة الكاسدة

شريف الشافعي
الإثنين   2023/05/29
"جعفر العمدة"
ليس من شك في أن الثقافة صناعة استثنائية كبرى، وأن الاهتمام المتنامي باقتصاديات هذه الصناعة، على مستوى التخطيط والمشروع والسوق والهدف والمكسب والخسارة وما إلى ذلك، هو من أولويات الدول العظمى والمجتمعات المتحضرة التي تتفوق فيها الثقافة، وتنهض وتتقدم إلى الأمام، وتتطور يومًا بعد يوم فكرةً وموضوعًا وشكلًا، وتنصهر في هوية الذات الفردية وفي الوجدان الجمعي العام، وتشعل مصابيحها التنويرية وتطلق وهجها الممتدّ، كقوة أساسية من القوى الناعمة، المؤثرة داخليًّا في نطاقها المحلي، والفاعلة خارجيًّا، إقليميًّا ودوليًّا.

هذا حديث اللحظة الراهنة، الطبيعي الاعتيادي، في عالم منفتح متحرّك، يُموّل الثقافة ويضخّ منتجاتها ويصدّرها عبر الحدود، ويتربح منها ماديًّا بشكل مباشر، إلى جانب قائمة الأهداف الأخرى والمنجزات المعنوية غير المباشرة، التي لا تُعَدّ ولا تُحصَى، ويجري تحقيقها أيضًا من خلال هذا التميّز الثقافي، وتلك القدرة على إبراز ملامح الأنا الشخصية وفرض حضورها وتوصيل رسائلها إلى الآخرين.

وإن هذا الحديث، الطبيعي الاعتيادي، في اقتصاديات الثقافة وسبل استثمار الأفكار وتنميتها، ليس هو المقصود هنا بكل أسف في هذا المقام، وليس هو المراد في هذه الكلمات القليلة المخصصة للإشارة إلى المشهد المصري الراهن، وما يحتضنه هذا المشهد من تكريس لظاهرة المصنع الحكومي الرسمي المضطلع بإفراز الثقافة، وهو إفراز يتبعه عادة ركود وكساد في الترويج والتمرير، وخيبة أمل في ردود الفعل.

جُملة إخفاقات
في هذا المشهد المحلي الخاص، ليست هناك صناعة ثقافة من المنظور الاقتصادي الإنتاجي، وبموجب الدراسات التسويقية التربّحية، وإنما هناك تركيز على مفهوم إتاحة "الخدمة" بدل بيع "السلعة"، مع الخلط بينهما في الممارسة. بمعنى أن المصنع الحكومي المؤسسي ينفق من جيبه في حدود الممكن والمتاح، ولا بأس من أن يسوّق منتجاته في حدود المستطاع أيضًا. ولكنه قد يتحمل الخسارة، مثلما يقول، ولا يندم على هذه التضحية، وذلك من أجل تقديم خدمة أو سلة خدمات ذات مواصفات قياسية هادفة، يُحصّن بها أبناء شعبه، ويرتقي بهم معرفيًّا وتوعويًّا وجماليًّا. كما يعمل من خلال هذه المخرجات والمعالجات الرصينة، مثلما يدعي، على اجتذاب الآخرين، وكسب احترامهم، واستعادة الدور المصري، الريادي القيادي، العربي والشرق-أوسطي. هذا ما تكرره لافتات المصنع العريضة، وشعاراته المثالية، التي لا يمل من ترديدها ليل نهار في المناسبات والاحتفاليات.

والحقيقة أننا أمام جُملة إخفاقات مركّبة وليس إخفاقًا واحدًا، حيث إن هذا "المصنع الحكومي لإنتاج الثقافة الكاسدة"، الذي يعفي نفسه من تبعات الفشل في الإنتاج التربّحي بدعوى الحرص على تقديم الخدمة المحمّلة بالقيمة والفضيلة والضمانات الاجتماعية والأخلاقية، هو غير قادر في الوقت نفسه على إيجاد ما هو مُقنع ومثمر ومؤثر وصالح للتلقي والاستساغة، في إطار هذا الطرح المجاني، غير الهادف إلى الربح.

ومن جانب ثالث، فإن تمحيص منتجات هذا المصنع، على نحو دقيق وتفصيلي، يؤكد أن التهافت الفني والجمالي حدّ التسطيح والركاكة ليس فقط هو السمة المهيمنة على المنتجات الراكدة. فهناك أيضًا إهدار في أحوال كثيرة لمبادئ المصنع وشعاراته، غير الفنية، بشأن الالتزام والمحافظة ورسائل الوعظ والإصلاح والإرشاد وما في هذا الإطار، إذ قد تنطوي إفرازات مصنع التهذيب والتقويم (دراما رمضان مثلًا أو عروض مسرح الدولة) على عكس ذلك من تبرير الجريمة والفساد والخيانة والانتقام مثلًا، والانحرافات السلوكية، والممارسات المنحلّة، وغيرها من الأمور المنبوذة دينيًّا وشعبيًّا وفق قناعات الأغلبية.

مناخ بائس
لماذا لا تؤتي الثقافة، كصناعة حكومية، أكُلَها، ولا تحقق أغراضها المادية والمعنوية على السواء؟ لماذا لا يلتفت الجمهور الالتفات الإيجابي المأمول إلى الدراما الرمضانية المحشود لها بكافة أشكال الحشد، ولا يكاد يكترث بفعاليات قومية ضخمة مثل عروض مسرح المواجهة، والتجوال، والطفل، والعرائس، والأراجوز، ومبادرة دعم الكتب وتقسيطها، وغيرها من الاستراتيجيات والأنشطة الرسمية الموسّعة؟ الإجابة لا تنحصر في سبب واحد بالتأكيد، لكنها مجموعة من الأسباب المتشابكة، والدوائر المتقاطعة مع بعضها البعض، والتراكمات الموروثة عبر سنوات.

وهذه الأسباب، يغلّفها مناخ عام بائس جامد، هو الأكثر خطورة على الثقافة، إذ يقضي هذا المناخ العام بحتمية التعاطي مع الثقافة بوصفها دعاية للدولة وسياساتها، وكيانًا تابعًا للجهاز الحكومي السلطوي، وليس باعتبارها غاية في حد ذاتها. ولقد كانت وزارة الثقافة نفسها، وهي أعلى منظومة مؤسسية تدير الثقافة، تسمّى رسميًّا وزارة "الإرشاد القومي" في العهد الناصري، في إشارة واضحة إلى أن صناعة الثقافة، في المصنع الحكومي، تعني سنّ البروتوكولات وإصدار التعليمات. وفي مرحلة توزير فاروق حسني (1987-2011) أطلق المثقفون الحقيقيون الأحرار على وزارة الثقافة "حظيرة التدجين"، إذ صار دورها المحوري يكاد يتجسّد في استقطاب الانتهازيين من المنتفعين والممالقين والمأجورين، وإقصاء أصحاب وجهات النظر المختلفة من المستقلين والمعارضين.

ولا يزال المصنع الحكومي المعنيّ بإفراز الثقافة يعاني قصورًا وهشاشة في فهمه وتصوراته ورؤيته للثقافة أصلًا، ومن ثم في أجندته وإدارته وآليات إنتاجه للثقافة أو ما يَعتقد أنها ثقافة. ويتوازى ربط الثقافة بالتوجيه والتسييس والدعاية، مع إخضاعها لترتيبات إجرائية أخرى تفلسف نظرية المصنع الحكومي. وتتعدد صيغ هذه الترتيبات والإجراءات، وتندرج تحت مسمّيات عدة، منها الشروط والضوابط والمعايير والأكواد، الاجتماعية والإعلامية والدينية والأخلاقية، ومواثيق الشرف، ووظيفة الإبداع، إلى آخر هذه المحددات الفضفاضة، التي تقولب الثقافة، وتقمع حريتها، وتحدّ انطلاقها.

ومن هذه التمظهرات المحيطة بالثقافة، والمتذرعة عادة بكليشيهات المسؤولية والالتزام والحشد والتعبئة والحفاظ على الآداب العامة، ما جرى إعلانه حديثًا من "ضوابط الإبداع" على سبيل المثال، وهي قائمة توصيات حددها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، واشترط توفرها، خصوصًا في الأعمال الدرامية والإعلانات، بهدف حماية حقوق المتلقي. وتتضمن القائمة بنودًا كثيرة، منها مراعاة المعايير المهنية والآداب العامة وقيم المجتمع وأخلاقياته، وتفادي الألفاظ البذيئة والحوارات السوقية النابية والمشاهد الفجة والإيحاءات المسيئة.

وليس ببعيد هذا الإجراء عما أصدرته النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر في وقت سابق من "ميثاق الشرف الثقافي والأدبي"، الذي يدعو إلى الالتزام بمسؤولية الكلمة، في حين تبدو بنود الميثاق تهديدًا فعليًّا لحرية التعبير، خصوصًا مع المطالبة باتخاذ عقوبة صارمة ضد المخالفين للميثاق من حملة الأقلام، وهم أولئك الذين ينتهكون قيم المجتمع وثوابت الضمير الثقافي العربي، وفق نصوص الميثاق. وفي السياق ذاته، هناك ما يسمى "مرصد الإعلام المُعادي"، وقد أطلق بدوره مبادرة وطنية لدعم مصر ومواجهة الحملات الممنهجة، ووضع مواصفات للإبداع الجاد، والثقافة المسؤولة، لضمان حماية المواطن مما قد يظن أنه في صالحه.

أسباب مباشرة
وتحت مظلة هذه الأجواء والأسقف السميكة العقيمة من الرؤى والمفاهيم الضبابية والمغلوطة للثقافة، فإنه ليس من الصعب رصد أسباب أخرى أقرب وأكثر مباشرة لإخفاقات المصنع الحكومي، المنتج للثقافة الراكدة والإبداع الكاسد. منها، على سبيل المثال وليس الحصر، افتقار التصنيع إلى الوعي النوعي الكيفي، حتى في حالة توفر التمويل المادي الكمي اللازم للإنتاج، ما يجعل المنتج ضحلًا رديئًا، وأحادية الطرح الذي لا يستوعب الجدل والمناقشة وتعددية المواقف والآراء، وسيادة التلقين وسيطرة النزعة المدرسية على الخطاب الذي يُفترض أنه جمالي إبداعي في الأساس، ما يفقد المُنْتَج جاذبيته وطبيعته الفنية، وإسناد المناصب القيادية وشؤون التخطيط والإدارة الثقافية إلى أهل الثقة من الموظفين غير المختصّين وغير المؤهلين، والتوقف عند نقاط زمنية بعيدة وعدم متابعة مستجدات الأنساق الإبداعية والصناعة الثقافية المتطورة في العالم، وإعادة استهلاك أمجاد الماضي ومنجزاته على سبيل التدليس والتعمية كبديل عن الواقع المرفوض.

مصائب المسلسلات
إن إطلالة سريعة، من المتلقي العادي، على أي نموذج من إفرازات المصنع الحكومي، كفيلة بقراءة عورات هذا المُنْتَج الثقافي الكاسد وسوءاته المفضوحة، واستشفاف تضرره الفادح من خطايا المناخ العام السائد، ومسببات هذا التقزم وهذا الكساد. فمسلسلات رمضان الماضي مثلًا لم تصل إلى الحد الأدنى من النضج الدرامي والأدائي والتقني والإخراجي والتصويري، إلى جانب سقوطها في الأخطاء التاريخية الفجة، ولربما التلفيق المتعمد، كما في "سره الباتع"، و"رسالة الإمام". والمثير أن هذه المسلسلات لم تأخذ كذلك بالمواثيق المجتمعية والأخلاقية المحددة لها، كما في مسلسل "جعفر العمدة" مثلًا، المليء بالجرائم والانحرافات، إلى جانب إلقائه الضوء على ظاهرة تعدد الزوجات. وفي حالة تقيّد المسلسلات بهذه المواثيق، فإنها تتحول من أعمال إبداعية إلى بيانات إنشائية وخطب منبرية زاعقة، كما في مسلسل "تحت الوصاية"، المتحمس لقضايا تمكين المرأة، ومنحها حقوقها المسلوبة، في المجتمع الذكوري. وحتى المسلسلات الكوميدية الخفيفة، مثل "الكبير أوي"، فإنها سقطت في الاجترار والاستخفاف والضحالة، والمط والتطويل، كما لم تسلم من حشد رسائل توعوية ساذجة بدعوى مساندة جهود إصلاح المجتمع.

ركام الإفلاس
وتأتي منتجات ثقافية أخرى لتشكّل نماذج أكثر وضوحًا لإخفاقات المصنع الحكومي، منها برمجيات مسرح المواجهة والتجوال. وهي سلسلة عروض برعاية مسرح الدولة، تجوب المحافظات المصرية المختلفة، بهدف مواجهة التطرف والعنف والمفاهيم المغلوطة بواسطة الفن، ومد أشعة الاستنارة وإحداث التغيير الإيجابي في الوعي والفكر والذائقة الجمالية. وفي الفلك ذاته تدور عروض مسرح الشباب، والطفل، والأراجوز، وغيرها من تجارب مسرح الدولة الرسمي.

وبطبيعة الحال، وكما هو مألوف ومتوارث، فإن ما يتردد من شعارات عن تطوير المجتمع وبناء الإنسان وتحقيق العدالة الثقافية والتصدي للعنف من خلال المسرح أمر، والقدرة الفعلية على تجاوز النصح والإرشاد وتقديم مسرح إبداعي جاد ومتطور وجاذب وفاعل يحمل ضمنيًّا هذه التوجهات، أمر آخر تمامًا. والحصيلة في هذا الفضاء، كما في غيره، هي ركام من الأعمال التعليمية، المباشرة، الفقيرة حد الإفلاس، التي تقتل أبجديات الفن وتعريفاته الأوّلية، فكيف لها أن تبلغ أهدافًا أخرى أبعد منالًا، وتُحيي نفوسًا صدئة وخربة؟!