«أمّ» (mère) لوجدي معوّض: قصّة الحكاية المكسورة

أسعد قطّان
الأحد   2023/05/28
«أمّ» (mère) لوجدي معوّض
 
«لكنّني على يقين بأنّ كلّ اللغات التي ينطقها المهاجرون تعرّبت على أيدي الأحفاد الذين نسوا لغتهم، فاكتشفوا أنها جزء من أرواحهم» (الياس خوري)
يخرج وجدي معوّض إلى الناس الذين أمّوا مسرح La colline الوطنيّ في باريس، هذه المدينة الزائغة العقل بما تختزنه شوارعها من جمال، كي يقول لهم ما لا يقال بلغة راسين وجاك بريفير. يريد أن يجعلهم، ولو لوهلة في حياتهم، يتحسّسون بعض دقائق (subtilité) اللغة المحكيّة اللبنانيّة التي لا يمكن ترجمتها إلى الفرنسيّة. «تقبرني» لفظة إذا تُرجمت حرفيّاً لا تعني شيئاً. أمّا إذا استُبدلت بما يقابلها، وثمّة طبعاً ما يقابلها، فهي تفقد تلقائيّاً تلك الشحنات العاطفيّة التي تلتصق بألفاظ من هذا النوع في لغتنا. يريد وجدي معوّض لجمهوره أن ينخرط في لعبة اللغة التي تحيلنا على انكسار اللغة، وتأخذنا إلى ما لا يقال. فيقول ويقول. ثمّ ينتبه إلى حقيقة غاية في البساطة: لا بدّ للعرض المسرحيّ من أن يبدأ. ولا بدّ له من أن يتحوّل على الخشبة إلى ناجي، الفتى الذي تخونه اللغة، فلا ينبس طوال العرض ببنت شفة، مكتفياً بحمل الأمتعة ونقل طاولة الطعام من مكان إلى آخر.

في «أمّ» يستعيد وجدي معوّض وجه أمّه جاكلين غرزوزي (عايدة صبرا) في أثناء إقامتها الباريسيّة ذات السنوات الخمس: امرأة تهرب من جحيم الحرب الأهليّة في لبنان مع أولادها نايلا وناجي ووجدي، تاركةً زوجها عبدو يزاول تجارته، على أمل أن تنتهي الحرب الأهليّة سريعاً، فيجتمع شمل العائلة من جديد. يصبح المنفى الباريسيّ المكان الذي تتشظّى فيه جاكلين بين حنينها إلى الوطن المحترق، بكلّ تقاليده التي تضفي شيئاً من الأمان على حياة أبنائه، من جهة، وأولادها الذين تحسّهم ينسربون من بين أصابعها في عالمهم الجديد بلغته المعقلنة وتاريخه المتشابك وقيمه المغايرة من جهة أخرى. يسحقها المنفى الباريسيّ، فنجدها لا تتوقّف عن الصراخ وإطلاق الشتائم اللبنانيّة (المحبّبة إلى قلبنا) واضطهاد أولادها الثلاثة، كأنّ الضغط عليهم في تفاصيل حياتهم اليوميّة يصبح وسيلتها الوحيدة لاستعادة شيء من فردوسها المفقود. لكنّ الحلم بالعودة سرعان ما يتلاشى. وتضطرّ العائلة إلى مغادرة فرنسا والالتجاء إلى مقاطعة كيبيك في كندا، حيث تموت جاكلين بالسرطان غير مصطحبة معها إلى قبرها سوى ذكرياتها وحكايتها المكسورة. في الدائرة الباريسيّة الخامسة عشرة، المآكل والحلوى اللبنانيّة، واللغة المحكيّة المتوارية شيئاً فشيئاً عن يوميّات نايلا ووجدي، تصبح رمزاً لعالم هارب تتشبّث به جاكلين. لكن، ويا للمفارقة، لا يجلس الأولاد وأمّهم إلى الطاولة لتناول الطعام معاً، على الرغم من انهماكهم طوال المسرحيّة في تحضيره، إلّا في المشهد الأخير من العرض. وهو مشهد يرفع فيها وجدي معوّض القبّعة لأمّه معلناً تصالحه معها، ومع ماضيه، في لحظة كأنّها مقدودة من ألف ليلة وليلة. فتعمر المائدة بالأطايب، ويصبح وجه الأمّ أشبه بأيقونة. 

لكنّ وجدي معوّض لا يستعيد أمّه جاكلين على المسرح فحسب، بل يعيد خلقها من جديد. وهذه عنده هي عبقريّة الذاكرة وعبقريّة المسرح. فهذا قادر على خلط الواقع بالمتخيَّل، والماضي بالحاضر، وعلى اجتراح لحظات لم تحصل يوماً. في وسط العرض المسرحيّ تقريباً، يتحوّل وجدي من ناجي الصامت إلى وجدي الكاتب والمخرج، ويدخل مع جاكلين في حوار يشدّد على أنّه «من تأليفه»، كي يقول لأمّه ما لم تسمعه منه طوال حياتها القصيرة: يعاتبها على قسوتها، ويهتف بها أنّه لم يصبح كاتباً مسرحيّاً إلّا بعد موتها، أو ربّما بسبب موتها؛ يخبرها عن الذين تقطّعت أجسادهم في انفجار مرفأ بيروت، ويسرّ إليها بأنّ الحرب اللبنانيّة، التي طالما انتظرت نهايتها، لم تنتهِ بعد. بعد هذا اللقاء المتخيَّل، تتّخذ شخصيّة جاكلين في المسرحيّة معالم أكثر قسوة. فتصبح أكثر انصياعاً لواقعها للفرنسيّ الجديد، وأكثر ابتعاداً عن تراجيديا العنف والموت التي حملتها على مغادرة بيروت. ولعلّ هذه المسافة تفصح عن ذاتها في أحد أكثر مشاهد العرض المسرحيّ عمقاً وقسوةً حين تدخل جاكلين نوبةً من القهقهة العبثيّة فيما هي تروي تفاصيل جنازة أحد الميليشياويّين إبّان الحرب الأهليّة. 

أن تقول إنّ وجدي معوّض في «أمّ» يذهب من السيرة الذاتيّة إلى المسرح هو ألّا تقول شيئاً. حقيقته أنّه يعود. يعود من النصّ المسرحيّ إلى ما حدث في الماضي، وما لم يحدث، كي يصبح، ونصبح معه، أكثر قدرةً على احتمال هذا الماضي والتعايش معه. لم تعد جاكلين غرزوزي إلى بيروت كي تعدّ هناك المازة اللبنانيّة لزوجها وأولادها. لكنّ وجدي في «أمّ» هيّأ لأمّه جاكلين عودةً من نوع آخر... ومائدةً من نوع آخر.