رجل بوهيمي وأمرأة غيور: وردة وبليغ...الحب وحده لا يكفي

أشرف غريب
الأربعاء   2023/05/24
الحب القاسي
العنوان الكبير الذي يمكن أن يوجز قصة الحب الملتهبة بين المطربة وردة الجزائرية التي رحلت في 17 أيار 2012 والموسيقار بليغ حمدي الراحل في 12 أيلول 1993، هو "الحب وحده لا يكفي". فكل شىء في قصة الحب هذه يؤكد أن زواجهما كان مكتوباً على ورقة طلاق، رغم أنه استمر فعلياً ما يقرب من ست سنوات كان نتاجها عشرات من التجارب الفنية الناجحة والكثير من الأزمات العائلية المتفاقمة.

ذات مساء دمشقي من العام 1957، أتخذت وردة، المولودة في باريس لأم لبنانية من عائلة يموت وأب جزائري من عائلة فتوكي، مجلسها بجوار صديقة لها في صالة سينما تشاهد فيلم "الوسادة الخالية" لعبد الحليم حافظ والوجه الجديد – آنذاك – لبنى عبد العزيز. لم تنجذب ابنة السابعة عشرة مثل بنات جيلها، لا إلى عبد الحليم معشوق الفتيات في ذلك الوقت، ولا إلى لبنى عبد العزيز، وإنما شدها شيء آخر تماماً، إنها أغنية "تخونوه" التي شدا بها العندليب الأسمر ضمن أحداث الفيلم من كلمات إسماعيل الحبروك.

وقبل أن تعرف أن بليغ حمدي هو ملحن الأغنية همست وردة في أذن صديقتها: "لا بد أن أغني لهذا الملحن في يوم من الأيام وربما أتزوجه أيضاً، إن جمله الموسيقية معجونة بشجن نبيل تمس شغاف القلب ولا بد أنه هو أيضا مثل موسيقاه".

أما بليغ حمدي، فكان في القاهرة يخطو خطواته الأولى نحو مجده الموسيقى الذي تأكد بلقائه الفني الأول مع صوت أم كلثوم في أغنية "حب إيه" نهاية العام 1960، حتى إذا ما جاءت وردة إلى مصر العام 1962 تلبية لدعوة المخرج والمنتج حلمي رفلة، للقيام ببطولة فيلم "ألمظ وعبده الحامولي"، التقت بحلمها القديم بليغ حمدي الذي لحن لها في الفيلم المذكور إحدى أشهر أغنيات بداياتها "يا نخلتين في العلالي"، وخلال البروفات، شعر بليغ أن شيئاً شخصياً يشده إلى هذه الفتاة. وبعد عرض الفيلم، كان الاثنان قد تأكدا من مشاعرهما، خصوصاً مع لقائهما الفني الثاني في أغنية "أحبك فوق ما تتصور"، فسعى بليغ إلى أسرتها يطلب يدها للزواج لكن الأسرة الجزائرية رفضت، وجاء شقيقها إلى القاهرة حتى يعيدها إلى وطنها تزامناً مع الوشاية الكبرى عن علاقتها بالمشير عبد الحكيم عامر -الرجل الثاني في مصر- والتي دفعت بالرئيس عبد الناصر لاتخاذ قرار إبعادها عن مصر.

وفي الجزائر، تزوجت وردة في 17 شباط 1963 من جمال قصيري والد ابنيها وداد ورياض، وفي القاهرة دخل بليغ في أكثر من زيجة فاشلة من دون إنجاب أطفال، لكن مشاعر الاثنين ظلت على حالها حتى قيل أن أم كلثوم مازحت بليغ ذات مرة بشأن أغنيتهما "بعيد عنك حياتي عذاب" قائلة له "مش ح تبطل تبعت رسائل لحبيبتك من خلال أغنياتي؟". ثم جاء العام 1972، وأصر الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين على إعادة وردة -ولو مؤقتاً- من الاعتزال الإجباري الذي كان فرضه عليها زوجها، كي تغني في احتفالات الجزائر بعيد الاستقلال.

وأصرت وردة بدورها على استدعاء بليغ حمدي من القاهرة كي يلحن لها قصيدتها الوطنية "أدعوك يا أملي"، وإزاء الاستقبال الجماهيري الرائع لعودتها إلى عالم الغناء، دخلت في صدام حاد مع زوجها كي تستأنف نشاطها الفنى على نطاق واسع، فكان قرارهما في النهاية هو الانفصال لتعود هي إلى القاهرة فتجد بليغ في انتظارها بمجموعة من الألحان التي أعادتها إلى الساحة الفنية من جديد، مثل: العيون السود، اشتروني، وحشتوني، وبلاش تفارق، وكان هذا بالتزامن مع ظهورها السينمائي في فيلمي "صوت الحب" للمخرج حلمى رفلة، و"حكايتي مع الزمان" إخراج حسن الإمام.

وفي نشوة هذا النجاح الفني، لم يكن هناك ما يمنع من تحقيق حلم الثنائي بالزواج، وهو ما تم في آذار 1973 حينما أتت موثقة الشهر العقاري زينب عبد اللطيف، إلى منزل والدة بليغ حمدي بالزمالك، لتحرر عقد الزواج، وكانت وردة لم تحصل بعد على الجنسية المصرية. ومنذ أن تم الزواج، وعلى مدى ست سنوات حتى وقوع الطلاق الأخير بمعرفة عبد العليم عبد الشافي مأذون حي العجوزة في شباط 1979، كانت حياة وردة وبليغ عبارة عن مشروع دائم ومتجدد للانفصال لم يكن يوقفه سوى مشاعرهما الصادقة ونجاحهما الفنى المستمر. وردة قالت لى في العام 1993، بعد رحيل بليغ بأسابيع، أن قصة حبهما التي تحدت الزمن كانت من أصدق المشاعر التي يمكن أن تجمع عاشقين، لكن غلطة عمرهما أنهما تزوجا، وأضافت أنهما كانا مختلفي الطباع بصورة تستحيل معها العِشرة الزوجية، ولذلك فقد ظلا حبيبين وصديقين ومتعاونين فنياً بعدما انفصلا وحتى رحيل بليغ.



وفي أمر اختلاف طبائعهما الذي أحال حبهما إلى مجرد ذكرى، هناك واقعتان يمكن أن تفسرا كل شيء في علاقة بليغ ووردة. الأولى على لسان الممثل حسن يوسف، الذي حكى أن صديقه عبد الحليم حافظ أتاه ذات يوم في صيف 1974، وقال له إنه سيمر عليه في المساء ليصحبه معه إلى بيروت، وأن بليغ حمدي سيلحق بهما في المطار. وبالفعل تم الأمر على هذا الترتيب، وفي بيروت، انتبه بليغ فجأة أنه نسي أن يصحب وردة معه حسب الاتفاق، بل إنه لم يخبرها من الأساس بفكرة السفر. رجل بوهيمي وعشوائي مثل بليغ، الذي لم يكن منضبطاً في شيء، إلا في فنه، لم يكن من السهل على وردة التي عُرفت بالدقة والالتزام، التكيف معه ومع حياته المرتبكة، وكان ذلك سبباً في كثير من المشكلات العائلية بينهما.

الرواية الثانية على لسان وردة نفسها، التي حكت أن زوجها، وأثناء تلحينه لأغنية المطربة شادية "خلاص مسافر"، كان كلما وصل إلى المقطع الذي تقول كلماته "خايفة تلاقي وردة تحلو في عينيك"، كانت تقاطعه منفعلة وتقول لشادية غير المتواجدة في المنزل "ما خلاص لقاها.. عاوزة إيه منه؟!".. كناية عن الغيرة القاتلة التي خنقت بها وردة بليغ المعروف بعدم قدرته على كبح جماح مشاعره، حتى قيل إن أحد أسباب انفصالهما علاقة ما بينه وبين المطربة الناشئة في ذلك الوقت سميرة سعيد.


إذن.. رجل بوهيمي وأمرأة غيور تحت سقف بيت واحد، كيف يمكن أن تستقيم الحياة بينهما؟ إن الحب وحده لم يكن كافياً للوصول إلى تفاهمات دائمة تطيل عمر المسكنات التي أبقت على زواجهما ست سنوات كاملة، أو قل أن الحب فشل في أن يكون عرّاباً للتطبيع بين اثنين من أنجح الثنائيات الفنية على الإطلاق.