إبراهيم لاما المخرج العربي الأول... من الحبّ ما قتل

أشرف غريب
الأربعاء   2023/05/17
الشقيقان إبراهيم وبدر لاما
على أثر الوفاة المفاجئة للممثل بدر لاما، تعرض شقيقه المخرج إبراهيم لاما، لهزة نفسية قوية، فقد بدأ الاثنان مشوارهما الفني سويا منذ وصولهما إلى مصر العام 1926 قادمَين من شيلي بعدما كانت وجهتهما الأساسية موطنهما الأصلي في مدينة بيت لحم بفلسطين. لكن بواكير الحركة السينمائية في مصر شجعت الشقيقين على البقاء هناك ليقدما معاً فيلمهما الأول "قبلة في الصحراء" الذي يعتبره البعض أول الأفلام الروائية العربية الطويلة رغم أن فيلم "ليلى" الصامت الذي مثلته وأنتجته الممثلة عزيزة أمير، سبق عرض فيلم لاما بأسابيع، ومع ذلك، يُعتبر إبراهيم لاما، المخرج العربي الأول، على اعتبار أن "ليلى" أخرجه كل من التركي وداد عرفي والنمسوي ستيفان روستي.



واستمر نشاط الشقيقين معاً، حتى أن إبراهيم قام حتى العام 1947 بإخراج 27 فيلماً من أصل أفلامه الـ32، كان معظمها من بطولة شقيقه الممثل بدر لاما. وعقب وفاة الأخير حاول شقيقه إبراهيم استنساخ نجم سينمائي جديد، وتمثل ذلك في ابنه سمير عبد الله لاما الذي أخرج له فيلماً بعنوان "كنز السعادة" من بطولة سناء سميح وزوزو نبيل، ثم ألح على تقديمه في فيلمين دفعة واحدة العام 1948، الأول هو "سكة السلامة" من بطولة عفاف شاكر، والآخر هو "الحلقة المفقودة" الذي شاركته البطولة فيه فاتن حمامة. وفجأة اختفت أفلام إبراهيم لاما، نظر الباحثون الحاليون للائحة أفلامه، فوجدوا غياباً واضحاً لها بين العامين 1948 و1951، فراق لهم من دون أدنى تدقيق تفسير ذلك سياسياً على خلفية قناعاتهم بأنه يهودي الديانة، حتى إن "ذاكرة مصر المعاصرة" التابعة لمكتبة الإسكندرية قالت على صفحة إبراهيم لاما، ما نصه: 

"خرج إبراهيم لاما وابنه سمير من مصر لمدة عام ونصف العام في أعقاب حرب 1948 تاركاً الاستوديو الذي يمتلكه والأفلام التى كان يوزعها من إنتاجه، وعادا في نهاية آب 1949 عندما حدث تغيير في السياسة المصرية إزاء اليهود، وقد تعرض للهجوم الشديد إزاء تغيبه، وحاول التمويه على أسباب غيابه عن مصر لأن البعض كان يعلم أنه مسيحي والبعض الآخر يعتقد أنه مسلم، وبرر غيابه بقوله: كان الغرض من الرحلة هو استحضار آلات الأفلام الملونة غير أنه ثبت أن الأفلام الملونة في ستوديوهات أوروبا لم تصل صناعتها إلى حد الكمال، فأرجأ تنفيذ هذه الفكرة إلى أن تنفذ في الوقت المناسب بالمستحدثات الأميركية الكاملة، غير أن شراء المعدات لا يستدعي الغياب لأكثر من عام، كما أن ستوديو لاما لم يكن يملك إمكانيات جيدة لصنع الأفلام الأبيض والأسود، فكيف لم تعجبه الآلات الأوروبية ويريد الأميركية؟ ولم يقنع أحد بما قال".

انتهى كلام صفحة "ذاكرة مصر المعاصرة". فأي تغيير في السياسة المصرية إزاء اليهود سنة 1949 الذي يقصده مَن كتب هذا الكلام؟ وماذا يعني من وراء تلك التلميحات؟ وما هو رأيه الآن بعدما بات مؤكداً أن إبراهيم لاما وشقيقه بدر فلسطينيان مسيحيان من عائلة الأعمى في بيت لحم؟

فما حدث أن تعرُّض إبراهيم لأزماته النفسية والمادية قاده إلى تعثر خطواته الفنية وخصوصاً بعد فيلم "الحلقة المفقودة"(1948)، ناهيك عن الحريق الذي تعرض له استوديو لاما مرتين، أتى في إحداها على كل محتوياته بما فيها أصول أفلام كوندور فيلم، وهذا يفسر لماذا اختفت نسخ تلك الأفلام. ثمّ أن الرجل لم يختف في تلك الفترة عن صفحات الصحف والمجلات إلا نادراً. وها هو يحكي بنفسه في مجلة "الكواكب" في عدد آب/أغسطس 1950 عن رحلاته في أحراج أفريقيا التى كانت تأخذ منه أيضاً وقتاً لا يستهان به، حيث قال:

"وذهبنا بعد ذلك إلى قرية للزنوج فأخبر السافاري أهلها بأننا اصطدنا فيلَين، فإذا بالزنوج يصيحون ويرقصون في فرح، فإن قتل فيلَين معناه أن رزقاً أتاهم من السماء، فليس أحب إليهم من لحم الفيل.
واتفق معهم السافاري على أن يستخرجوا لنا أسنان الفيلَين مقابل ترك لحمها لهم، ورجعنا إلى معسكرنا لكي نعد معدات الرحيل، فقد كانت أمامنا جولات في جهات أخرى لصيد الجاموس البري وتصوير مغامراتنا الجديدة في مجاهل القارة السمراء".

   

 
وهكذا غاب إبراهيم لاما عن مصر في الوقت الذي كان يعاد فيه تجهيز الاستوديو الخاص به من جديد، خصوصاً أن الصحافي السيد حسن جمعة، حكى لمجلة "الكواكب" في 26 أيار 1953، بعد أيام من مصرع لاما، عن مغامرة أخرى له في غابات وصحراء جنوبي السودان. كما أشارت صحيفة "المصري" بتاريخ 7 تشرين الأول/أكتوبر 1949، إلى الرحلة التي قام بها إبراهيم لاما إلى أوروبا لاستيراد معدات جديدة كي يعيد تأسيس ستوديو لاما، ويبدو أن هذه المعدات كانت هي المقصودة في حديث لاما عن رحلته إلى هناك، والتي لم يصدقها من أراد إرجاع اختفائه لأسباب دينية وسياسية انتصارا لنظرية المؤامرة.

على أية حال عاد إبراهيم لاما لاستئناف نشاطه الفني نهاية العام 1950، فقدم العام 1951 فيلمين من بطولة ابنه سمير عبد الله أمام شادية، الأول "عاصفة على الربيع" والآخر "القافلة تسير"، والاثنان تدور أحداثهما في أجواء اجتماعية لا تخلو من المؤامرات، وإن تميز الثاني بالتصوير في منطقة البحيرات ومجاهل أفريقيا، وهي الرحلة التي أخذت من وقت إبراهيم مدة غير قصيرة.

ورغم هذا النشاط من جانب إبراهيم لاما فإن أزماته النفسية والاقتصادية كانت تؤرق حياته التي دخلتها في ذلك الوقت فتاة يونانية حسناء اسمها "إيزابيل كرجا"، ابنة تاجر خردوات من المقيمين في مصر. كانت إيزابيل في الثانية والعشرين من عمرها، بينما هو في السابعة والأربعين، وكانت صديقة لزوجته الأولى أمّ ولديه سمير وجودة، ومع اقترابها من العائلة أبدت الفتاة الصغيرة إعجابها بالمخرج المشهور ببنيانه الرياضي وعشقه المغامرات، فتعلقت به، وكانت ترافقه في رحلاته ومغامرات السفاري في مجاهل السودان وكينيا بصحبة ابنه سمير وأحياناً صديقه الصحافي السيد حسن جمعة، وظنت الأوساط الفنية والصحافية أن علاقة تجمع بين اليونانية الحسناء والوجه الشاب سمير. لكن بعد رحيل زوجة إبراهيم الأولى، تبين أن مشاعر متبادلة تجمع بين الفتاة الصغيرة والمخرج المشهور، وبالفعل أعلن إبراهيم زواجه منها، وقيل إنه كان يعدها بأن تكون وجهاً سينمائياً جديداً، غير أن الأمور لم تكن بينهما على ما يرام بسبب فارق السن وغيرة إبراهيم الشديدة عليها، لكن أحداً لم يكن يتوقع أن تكون نهايتهما على النحو الذي حدث.

 
فذات مساء مع بداية شهر أيار 1953، وصلت الخلافات بين الطرفين إلى ذروتها، فقررت إيزابيل مغادرة البيت والعودة إلى بيت أسرتها في 185 شارع الملكة، وهذا كان أقصى ما يستطيع إبراهيم تحمّله، وهو الابتعاد عنها. حاول كالعادة إزالة هذه الخلافات، لكنه فشل هذه المرة، فكان أن أطلق الرصاص على حبيبته الحسناء في 14 أيار من العام نفسه، ثم صوب مسدسه إلى نفسه كى يموت بجوارها في مشهد دراماتيكي لم يصل إليه خياله السينمائي الخصب على كثرة ما ألّف وأخرج من أفلام. وتكتب مجلة "الكواكب" في 19 أيار 1953:

"عندما صوب إبراهيم مسدسه إلى قلب حبيبته كان قلبه يخفق بحبها وعيناه تلمعان شوقاً إليها، لكنه لم يجد طريقة ينفذ بها إلى هذا القلب إلا من خلال رصاص مسدسه بعدما حاول استرجاعها عبثاً إلى حظيرته، وبذل الرخيص والغالي ليقنعها بالعودة إليه، لكنها تعنتت في إملاء شروط قاسية لتصل حبل ودّها به.. وقد قال الطبيب الذي كشف على الجثتين أن مواضع الإصابة تدل على أن الرامي كان يعلم مكان الهدف".

ومع مباشرة تحقيقات النيابة، بدأت الأمور تتكشف، وتبين أن إبراهيم كان قد أعطى إيزابيل مصوغات ذهبية بقيمة ألف جنيه كانت تخص زوجته الأولى، ولما حاول استرجاعها، رفضت، رغم علمها أنها تخص ولديه سمير وجودة كميراث من أمهما. وتبين أيضاً أن إيزابيل كانت زوجة لطيار أميركي أنجبت منه ابنة، وأنها دفعت 15 ألف جنيه كي تحصل على الطلاق رغبة في زواجها من إبراهيم، ولذلك كانت دهشتها من مطالبة زوجها بالمصوغات رغم أن المخرج المعروف كان قد فعل المستحيل من أجل استرجاع إيزابيل لطفلتها من الولايات المتحدة. وأفادت مدام إميل بيطار، صديقة إيزابيل التي وقع الحادث في شقتها، أن النقاش بين الاثنين بدأ هادئاً، وهذا شجعها على ترك الزوجين لعمل القهوة، لكنها عادت على صوت طلقات الرصاص لتجد الاثنين غارقَين في دمائهما، وعثرت الشرطة في جيب إبراهيم على مبلغ 111 قرشاً فقط ومفكرة صغيرة بها صورتان 6× 9 لإيزابيل وبعض العبارات المكتوبة حديثاً، حيث كتب تحت عنوان "امرأة ذهبت إلى النهاية" في الصفحة اليمنى:

"إنها امرأة عاشت في خيالي، وكان لها على نفسى سلطان، كنت أعبدها، لكن عبادتها انقلبت إلى كفر، وسأمضي إليها كافراً فأذيقها كأس العذاب، الكأس الذي طالما أذاقته لي... هل أقتلها أم أقتل نفسى وينتهي ذلك المشهد الدرامي عند هذا الحد العنيف؟"


وترك لاما بقية الصفحة فارغة ليكتب في الصفحة المقابلة: "اليوم 14 مايو... يوم حرب أو سلام؟" ولم يعرف أحد حتى الآن إن كان ما كتبه إبراهيم لاما في مفكرته مجرد فكرة لعمل سينمائي كان يعد له، أم أنه كان ينوي على شيء محدّد تجاه إيزابيل؟