آري جان سرحان لـ"المدن":موسيقى "الزند" ملعَب الشرق والغرب..بلا ذوَبان

نور رجب
الخميس   2023/05/11
"أردتُ أن أحمل العتابا إلى صيغةٍ مختلفةٍ، تطغى فيها الدراما على الاستعراض الصوتي والقوّة"
أفل السباق الدراميّ الرمضانيّ جارفاً معه أجدر الأعمال وأردأها، مع كلّ ما واكبها من نقدٍ لاذعٍ وتملّقٍ متمادٍ، في حين احتفظ العنصر الموسيقيّ بسطوته على الجمهور المخلص لموسيقاه وشاراته المفضلّة التي ما زال يكثر نشرها وتذوّقها بتوق.

فنّياً، يُعلّل هذا بكون الموسيقى فاتحة العناصر الدراميّة الوافدة لأفئدة المشاهدين وخاتمة المغادرين منها، فهي تسبق الحدث الى الحواس، كما أنّها أبجديّةٌ فصيحةٌ تترجم النصّ بديناميكيّةٍ، وتتعداه الى أبعادٍ أعمق، قد لا تنكشف كلها عبر الكلمة والصورة التي تضيّق على خيال الرائي. والموسيقى التصويريّة لمسلسل "الزند"، حاملة توقيع آري جان سرحان، هي صورةٌ بليغةٌ لهذا الواقع، خصوصاً أنّها، وبعدما واكبت نجاح المسلسل خطوةً خطوة، ما زالت تستقطب اهتماماً قيّماً من الجمهور المأخوذ بمقدرة سرحان على تهجين العتابا التراثيّة بالأوركسترا الغربيّة في إطارٍ خادمٍ للسياق الدراميّ للعمل.

ويبدو أننّا اليوم أمام معادلةٍ حداثيّةٍ لم يعد الإنتاج العربي قادراً على مراوغتها، ومفادها أنّ لا دراما جيّدة من دون موسيقى جيّدة. وهذه العلاقة التكامليّة الوثيقة التي تجمع بين الموسيقى والدراما، وتجلّيها بأبهى حللها في شارتيّ البداية والنهاية لمسلسل "الزند"، كانت محور مقابلة أجرتها "المدن" مع الموسيقار السوري الكردي آري جان سرحان.

الموسيقى كأداةٍ دراميّةٍ

- هل تستدعي تجربة التأليف الموسيقيّ للمسلسلات، الغوص في عوالم النصّ من البداية إلى النهاية، أم تكتفي بالزبدة؟

* في الواقع، لا يمكن أن يكتفي الموسيقيّ بالزبدة، فهو يصغي بدايةً إلى رؤية المخرج لتنكشف أمامه طبيعة العمل وعوالمه، ثمّ يتمّعن في قراءة النصّ كاملاً، سواء كان يعمل على شارةٍ تلّخص المسلسل، أم على موسيقى تصويريّة ٍتخدم كلّ مشهدٍ بشكلٍ مستقّلٍ. فالمؤلّف يبدأ بتكوين وجهة نظره حول النمط الموسيقيّ الذي سيعتمده والآلات التي سيستعين بها تدريجياً، ثم يغوص أكثر فأكثر في العمل فيطلّع على مقاطع مصوّرة من المشاهد قبل انتهاء المونتاج، كما ويعاين اللون والطابع الإخراجيّ والتأطير ليتمكّن في النهاية من إيجاز الرسالة الدراميّة موسيقيّاً.

- اللغة الموسيقيّة سلسلة وبليغة، إلى أيّ مدى يمكن تطويعها بهدف تجسيد الصراع والحبكة الدراميّة للعمل؟

* الموسيقى عنصرٌ أساس في كلّ عملٍ سينمائيٍّ، و"الزند" أُنتج باعتماد المعايير الفنيّة السينمائيّة الرفيعة. في هذا الإطار، واستكمالاً لما ورد في إجابتي الأولى، وبعد التعمّق في خبايا النصّ، اعتمدتُ ثيمة أساسيّة للمسلسل، وهي بالطبع ثيمة "عاصي"، المستوحاة من الحبكة الرئيسة التي تتفرّع عنها سائر الحبكات الفرعيّة، والتي تدور حول الشاب عاصي الزند الذي يرجع من خدمته العسكريّة ليجد نفسه مقحماً في مؤامراتٍ جسيمةٍ، وهذه الثيمة تعكس موسيقيّاً صراعات الشخصيّة وتتبنّى مشاعرها وهواجسها. وموسيقاي في "الزند" بمجملها واكبت الحبكة الدراميّة عبر ملازمتها لثيمة "عاصي" التي توّلدت عنها الثيمات الموسيقيّة الفرعيّة الأخرى.

شارة البداية: حوار الأصالة والتجدّد


- في شارة البداية، اخترت موّالاً من التراث السورّي الساحليّ بصوت الراحلة "نوف البدويّة"، وتعمّدت خلطه مع ما دوّنت من موسيقى أوركستراليّة ملحميّة، ما السرّ وراء هذا الموّال؟

* سرّ الموّال يكمن في انبثاقه من بيئة العمل وروحه، فالنصّ الأصليّ اشتمل على العتابا بصوت شخصيّاته، كما أنّي سعيت منذ البداية كي أؤلّف موسيقى أصيلة، وخادمةً للحركة الدراميّة القائمة في المسلسل في الوقت عينه. وقد دفعتني رغبتي هذه للبحث مطوّلاً، إلى أن حظيت بصوت نوف صدفةً، فاستشعرت أنّه "صوت المنطقة"، فهو صوّتٌ معتّقٌ بالأصالة، ويضجّ بالنوستالوجيا، ويعكس إلى حدٍّ بعيدٍ أصوات جداتنا، كما أنّه يمثّل بشكلٍ تلقائيّ طبيعة العمل وبيئته. هنا، تعمّدت أن أوّظف التأليف الموسيقيّ والهارموني في إمرة ما غنّته نوف، والواضح من خلال ردود الأفعال أنّ الجمهور استساغ هذا الخليط.

- نلاحظ أنّ المزج بين الموّال والأوركسترا هنا جاء ثورياً بعض الشيء، كونه لم يعتمد على نقاط الانتقال المقاميّة، بل على التزامن، حيث حضرت الأوركسترا على مقام الكرد في مقابل العتابا على البياتي كعالمَين متوازيَين لم يندمجا كلياًّ. ماذا أردت أن تعكس من خلال هذا؟

* الدمج هنا مبنيٌّ على خلفيّةٍ أكاديميّةٍ بحتةٍ، فأنا وبحكم دراستي في المعهد العالي للموسيقى، تعرّفت على ثقافاتٍ موسيقيّةٍ عديدة ٍكالأذربيجانيّة، بالإضافة للأعمال الموسيقيّة الأوركستراليّة العالميّة، وقد بحثنا أيّام الدراسة ضمن هذا الإطار، في عددٍ من الفرضيّات المتعلّقة بدمج العالمين الشرقيّ والغربيّ، مع الحفاظ على خصائص الطرفين من دون ذوبان. فللموسيقى الشرقيّة روحها وإيقاعها ومقاماتها وآلاتها، وللموسيقى الكلاسيكيّة أيضاً أصولها. ويجب أن نحفظ في عمليّة الدمج قواعد العالمَين، وهذا ما اعتدنا فعله عبر تجارب دمج "كونشرتو" العود مع الأوركسترا والكثير من التجارب المشابهة التي مهّدت لما سمعتموه في عملي، لكنّ الدمج حينها كان آلياً، أمّا في الزند فهو غنائيٌّ آليٌّ.

شارة النهاية: جلب الماضي إلى الحاضر


- في 
الحديث عن شارة النهاية مع أغنية "رفاق الدرب"، بدا واضحاً ذوبان الموّال الشعبي بصوت مها الحموي في الموسيقى الأوركستراليّة، فالتهجين من خلال الهارموني التزم أبعاد مقام النهاوند كما الموّال، فما الذي دفعك لجمع العالمَين اللذين افترقا في شارة البداية؟

* لم تروِ شارة البداية عطشي، فملتُ للاستزادة من الغناء وأردت أن أهبه مساحةً أكبر، فكانت "رفاق الدرب" التي انبثقت عن تعمقّي في النص أوّلاً، وتأثّري الشديد بمشهد موت صالح ثانياً، ولمّا جاءت الصيغة النهائيّة لـ"رفاق الدرب" جامعةً لمضمون العمل، وقع عليها الاختيار كشارةٍ ختاميّةٍ. أمّا في ما يتعلّق بتركيبتها، فقد شئت أن تكون توحيداً للطابع الموسيقي للمسلسل ككلّ، بدءاً من الأوركسترا والعتابا في شارة البداية، مروراً بالموسيقى التصويريّة الكلاسيكيّة، ولهذا اعتمدت الثيمة التي استخدمتها في شارة البداية ذاتها، لكن بالطبع بتوزيعٍ وإيقاعٍ مختلفين هذه المرّة، ودمجتها مع لحن "رفاق الدرب".
وبالحديث عن الكلمة، طلبت من الشاعر برهوم رزق أن يستكمل مطلع الأغنية الذي كان مكتوباً أصلاً بما يتناسب مع أحداث المسلسل. وقد اكتملت الصورة في الختام بعد تواصلي مع مها الحموي، التي شكلّت في أدائها المتفرّد إضافةً مهمّة للعمل، خصوصاً أنّها تملك خلفيّةً أكاديميّةً موسيقيّةً رفيعةً بالإضافة إلى كونها ابنة المنطقة وملمّة بالتراث الغنائيّ للساحل السوري. وقد سعيت في هذا الإطار لتطعيم الأغنية بنَفسٍ شعبيٍّ مع استكمال الطابع الكلاسيكيّ الأوركستراليّ الذي خلا من الآلات الشرقيّة، وهدفي كان تطويع الموسيقى لخدمة الدراما بأفضل صورةٍ متاحةٍ.

- هل يلعب التوزيع الملحميّ المحدث دور الوسيط بين تاريخٍ زاخرٍ بالعتابا، وجيلٍ مسحورٍ بالعولمة الثقافيّة؟

* ما قمتُ به في "الزند" هو جلب التراث إلى الحاضر، فالعتابا مجالٌ موسيقيٌّ واسعٌ وصعب الحصر، ويتخلّله الكثير من التعبير، وقد قدمّته باستخدام الموسيقى الكلاسيكيّة التي تعتمد على البناء الهارموني والآلاتي، واستعنت لتحقيق هذا، بتقنيّات التنظيف وتقليل التشويش، وإزالة الآلات المصاحبة لصوت نوف في التسجيل الأصليّ ليخرج الى الجمهور بصيغةٍ حداثيّةٍ وكأنّه أنتج في زمننا.

- بالاشتراك مع مها الحموي والشاعر برهوم رزق، استحدثتَ شكلاً مبتكراً للموّال، تغلب فيه رهافة المغنى على حساب القوّة، فهل تتوقع أن يكون مستقبل مواويلنا بهذه "الرِّقة"؟

* تعمّدنا أن يكون العمل مرهفاً وحزيناً، وكأنّه يُوشوش المستمع برقّة، فالعتابا كما ذكرت، تقوم على الاستعراض لحالةٍ ما، سواء كانت حبّ الوطن أو الحبيبة أو ما شابه. وأنا في المقابل أردتُ أن أحمل العتابا إلى صيغةٍ مختلفةٍ، تطغى فيها الدراما على الاستعراض الصوتي والقوّة، مع الإشارة إلى أنّ الإمكانات الصوتيّة أيضاً، وجدت مساحةً شاسعةً لتتبلور عبرها في "رفاق الدرب"، فالقدرات الصوتيّة لمها تفرّدت بحضورٍ آسرٍ، لكن ضمن إطارٍ أكاديميٍّ دراميٍّ واضحٍ، تجلّى في أبهى حلله باندماج ثلاثيّة العتابا والأوبرا والأوركسترا.