مَن يكون المؤلّف؟ (3/3)

فوزي ذبيان
الأربعاء   2023/04/05
أغوتا كريستوف: عندما يريد الإنسان أن يكون كاتباً، عليه في البدء أن يكون لا شيء
أخبرتني زنّوبيا – شاعرة سابقة – في مقهى فهيم الواقع في ساحة التل الطرابلسية، أنها ومنذ شهور خلتْ ترمي كلّ ما تكتبه في أحد الأدراج ولا تعود للإلتفات إليه البتة. وهنا يتبادر إليّ سؤال، مَنْ يكون المؤلّف؟ أنا لا أدري، المؤلّف لا يدري... لا أحد يدري. فالمؤلّف قد يكون شبحاً، وقد يكون كائناً حقيقياً. إنما واستناداً إلى الانثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس، فالحقيقي في هذا السياق يتجلّى عبر حرصه على الإحتجاب بصرف النظر عن كيفية هذا الإحتجاب.

ساقتني ملاحظة زنّوبيا عن نفسها إلى ما بثّته الروائية الهنغارية آغوتا كريستوف في سيرتها الذاتية التي عنونتها بـ"الأميّة". فتحت العنوان الفرعي "كيف يصير المرء كاتباً"، كتبتْ كريستوف: "ينبغي في البداية أن نكتب، بالطبع. ثم بعد ذلك ينبغي الإستمرار في الكتابة. حتى حين لا يثير الأمر اهتمام أحد... حتى حين تتراكم المسودّات في الأدراج يَجِبُ ألاّ نتوقّف عن الكتابة".

من الجلي أن عبارة كريستوف تنمّ عن حرية هائلة حيال أن يكون المرء كاتباً، بينما عبارة امبرتو إيكو، لا تنمّ عن هذا الأمر: "ما يكتبه الإنسان لنفسه هو فقط لائحة المشتريات من السوبرماركت"...

حسب صاحبة "الدفتر الكبير"، الكاتب هو كائن نفسه بإطلاق. بالنسبة إلى صاحب "إسم الوردة"، الكاتب هو كائن الآخرين بعامة. وبالنسبة إلي، الكاتب هو كائن المراوحة بين نفسه والآخرين إلى آخر الشوط.

(إيكو: "ما يكتبه الإنسان لنفسه هو لائحة المشتريات من السوبرماركت")

يعلّمنا التاريخ الثقافي للشعوب أنه من السذاجة بمكان اختزال مفهوم "المؤلّف" (والمؤلّف هو هو الكاتب كما تقتضي هذه المادة) فإذن، من السذاجة اختزال "المؤلّف" في تعريف بعينه. لكن هذا لم يَحِل دون إعجابي بالصورة الضبابية التي رسمها الكاتب الأميركي جون شتاينبك للمؤلّف. عندما يكتب المرء بغاية النشر، يقول شتاينبك، فإنه يتصلّب كما يفعل المرء لدى وقوفه كي تُلتقط له صورة فوتوغرافية. فالمؤلّف في التصوّر الذي قد وضعه شتاينبك هو كائن الفرار بعامة، لا كائن التصلّب والجمود. وبالعودة إلى أدبيات أناركيي القرن التاسع عشر، الشيطان هو أول مؤلّف حر لأنه أكثر من يجيد الفرار، كما يقول باكونين بإختصار.

يخبرنا قاموس أوكسفورد أن كلمة "المؤلّف" مشتقه من الفعل اللاتيني augere، الذي يعني بالعنوان العريض للكلمة: يصنع، ينبت، ينشىء، يؤسس... ولن أتوسّع أكثر في مبحث أصل الكلمة كي لا تتحوّل هذه المادة إلى بحث في فيلولوجية كلمة "المؤلف" التي من اشتقاقاتها أيضاً ما يشي بالتحكّم والسيطرة.

ثمة مَنْ رأى في المؤلّف ذلك الكائن الذي يجيد جمع شتات الكلمات بعد انحسار العاصفة، عاصفته الشخصية بالدرجة الأولى، وهو رأي يلبّي بلا شك شرط الغرور عند بعض كبار المؤلفين. ولا بأس في ذلك، فليس من يسر الأمور ضبط شتات الكلمات بين دفتَيْ رواية رائعة... وفي نهاية الأمر، لِمَ على المرء أن يكون متواضعاً إزاء ما يُشبع غروره؟ فالتواضع في هذا المحل هو أسوأ أشكال الغرور، كما يرى صديقي بورخيس.

لقد خضع مفهوم "المؤلّف" لجملة من التباينات التي أقعدتْ أهل الإختصاص عن أن يأتوا بتعريف جامع مانع كما يقول أهل العرب، إلى أن انتهى الأمر برولان بارت أن أعلن في العام 1968 "موت المؤلّف" وهو ما ناقشناه في الحلقة الثانية من هذه السلسلة... ولا بأس بهذا الموت.

لقد أوهن المؤلّف كمفهوم، عزيمة النقّاد، ما حدا بفرنسي آخر، ميشال فوكو، أن يعلن في العام 1969 عن عدم أهمية مَنْ يتحدّث داخل النص، موسّعاً في هذا الإطار من أفق سؤال كان قد سأله سابقاً صموئيل بيكيت: هل من الأهمية بمكان أن نعرف مَنْ يتحدّث داخل النص؟ يسأل فوكو بعد بيكيت.

(بيكيت)

إن الوعي الذي استقرّ تاريخياً في أذهان المتلقّين، ويرى أن المؤلّف هو صاحب السلطة المطلقة على نصّه باعتباره عبقرياً، كما رأى رومانسيو القرن التاسع عشر، هذا الوعي نُسف كلياً عبر أمثال بارت وفوكو، بالإضافة إلى جاك دريدا بشكل خاص. فالقارىء بعد النصف الثاني من القرن العشرين، صار بشكل من الأشكال، الجزء المكبوت من المؤلّف، أما تلك السلطة المطلقة التي كانت للمؤلّف باعتباره عبقرياً فقد ولّتْ بعد شيوع مدارس التأويل، وليست "العبقرية" بعد هذا التحوّل الجذري إلا هبل بعض المؤلفين حيال ما أتوا به من نصوص... وللشعر هنا الحصة الأكبر... فالمؤلّف ليس سيّد نصه ولا هو بعبقري هائل، بل ربما تراه أقرب إلى كائن يجيد الكذب إلى حد الإبهار.

الحقيقة مملة بالنسبة إلى غونتر غراس، ولا بدّ من انعاشها ببعض الأكاذيب. عندما سُئل هذا الروائي الألماني عن الأسباب التي ساقته لأن يصير روائياً، ردّ بالقول: عندما كنت طفلاً كنت أكذب طوال الوقت... وهو ما ينطبق عليّ – أنا كاتب هذه المادة - حتى الآن، أقصد الكذب ... الكذب-الصادق إذا ما أردنا الإستعانة بـ"مجنون إلزا"، لويس أراغون. ومن باب الإستطراد الذي لا مفرّ منه حيال المؤلّف الكذّاب، نرى نيتشه في "علمه المرِح" يصرّح بملء الشدق أن الشاعر يرى في الكذّاب أخاً له في "الرضاعة"، كما يقول هذا الفيلسوف حرفياً، وهو قول جميل لكني أيضاً لن أتوسّع في هذه النقطة أكثر كي لا أتعرّض للقتل في هذا المقهى من مقاهي شارع الحمرا أو ذاك.

كفّ الحديث عن "المؤلّف" ككائن ثابت لا يُضعضع له ركن. وها هو أمبرتو إيكو يعلن في كتاب له عن التأويل، أنّ مجد القارىء يكمن في اكتشافه أن بإمكان النصوص أن تقول كل شيء بإستثناء ما يودّ المؤلّف قوله. نعم، لقد أضحى من الوجاهة بمكان أن يبيّت القارىء سوء النيّة حيال ما يخطّه المؤلّف، بل ألا يتقدّم بالحد الأدنى من ضروب الولاء حيال هذا النص أو ذاك بصرف النظر عن مؤلّفه حتى لو كان الله بذاته.

لقد أشارت عليّ قراءة الروايات بالحقيقة التالية: إن الذين يدّعون قول الحقيقة، تراهم يفعلون ذلك بسبب روح الكسل التي تتولّاهم، إذ ما أن تُتلى الحقيقة على مسامع الناس حتى يجد الإنسان نفسه في غنى عن كلّ حديث كما جاء في كتاب "عبقرية الكذب" لفرانسوا نودلمان والذي قد تصرّفتُ بالمقطع الذي اقتبسته منه.

إذا كان القارىء هو كائن مصادفة بالنسبة إلى هذا النص أو ذاك، فإن صاحب النص، المؤلّف، هو بمنزلة الكائن الذي يجب اجتثاثه عبر اجتثاث نواياه من وراء نصّه، وذلك عطفاً على السردية الثقافية التي تخصّ القارىء، وعطفاً على محرّك اهتماماته. ثمة من كتب مرة أنه لو قُدّر للإسكافيين وصانعي الأحذية أن يفسروا العهد القديم، فهم حتماً سيركزون على نعال الربّ ونعال أنبيائه وهو تركيز مشروع ومفهوم إلى حدّ كبير... أكثر ما يعلّمنا هذا الإسكافي هو أن لكل منّا نصّه الخاص.

في الكتاب الذي وضعه أندرو بينيت، وهو أستاذ النظرية النقدية في إحدى جامعات بريطانيا، عن "المؤلّف"، نراه يسأل في أحد فصول الكتاب: هل شكسبير الذي بلغ مجمل عدد الكلمات التي بثّها في كل أعماله ما يقارب الـ880 ألفاً، هو عينه شكسبير عبر كل هذه الكلمات؟ لا يشفي هذا الباحث غليلنا عبر جواب ينطلق من شخص المؤلّف، شكسبير، إنما انطلاقاً من متلقّيه عبر الأزمنة والعصور ليجيب: كلا، فنحن لسنا بصدد شكسبير واحد... ولنتوقّف عند هذا الحد كي لا تأخذنا ساحرات ماكبث الثلاث إلى وادي الجنون، وهذه الملاحظة الأخيرة ليست للباحث البريطاني الشهير، إنما لي.

أيضاً وأيضاً، مَنْ يكون المؤلّف؟ أيضاً وأيضاً، لست أدري إذ، وبالعودة إلى صديقي الضرير: من النزاهة بمكان أن يعرف الإنسان حدوده إزاء مفاهيم من هذا النوع. المؤلّف أعقد من ذلك بكثير، وثمة الكثير من العناصر التي تزيد من هذا التعقيد، ولا رأسها مبحث مستجد في النظرية الأدبية: تاريخ التلقّي، وهو المبحث الذي اختصره واحد من أهله في السؤال التالي: هل ما زال بإمكاننا القول بالمؤلّف الواقعي للنصوص؟ كلا، يردّ إيكو الذي طرح هذا السؤال.

عندما أصرّتْ زنّوبيا عليّ حيال مآل تلك الأوراق التي ترميها في الأدراج، ولّيتها الظهر واستغرقتُ في نارجيلتي وفي ذلك الشاي الطيّب، لتعود آغوتا كريستوف لتستجدّ علينا في تلك القعدة الجميلة وتقول عبر إحدى شخصيات روايتها "أمسِ": عندما يريد الإنسان أن يكون كاتباً عليه في البدء أن يكون لا شيء... فالعماء يطفو من كل حدب وصوب، كما تقول إحدى المؤلّفات، وربما ليس على النصوص التي في أدراجنا إلّا أن تستسلم لتطفو.